الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تخيّل أن تستيقظ بعد عشر سنوات، لتجد أن كل ما اعتدت عليه قد تغيّر. الوظيفة التي كانت حلمك اختُزلت إلى خوارزمية، الطبيب الذي كنت تثق به أصبح جهازًا يقرأ جسدك بدقة لا يملكها البشر، والمدن أصبحت تتحدث، وتتعقّب، وتُقرّر. قد يبدو هذا المشهد من وحي الخيال، لكنه في الحقيقة ليس بعيدًا عنا كما نظن. نحن لا نعيش زمن التحول الرقمي فقط، بل نعيش تحوّلًا في المفاهيم، في العلاقات، وفي القيمة ذاتها.
وفي قلب هذا المشهد، يقف السوق السعودي أمام مفترق طرق. ليس لأننا متأخرون عن ركب التقنية، بل لأن لدينا فرصة فريدة: أن نصوغ علاقتنا بها بطريقتنا الخاصة. لسنا مضطرين لنقل التجربة بحذافيرها، فلدينا بيئتنا، وسياقنا، وثقافتنا، التي تُعطينا زاوية نظر مختلفة.
من المدهش أن التقنية، رغم حيادها الظاهري، تحمل بداخلها تصورات عن الإنسان والمجتمع والاقتصاد. ما يُصمَّم في وادي السيليكون مثلاً، لا ينبع فقط من عبقرية هندسية، بل من فلسفة حياة مختلفة: الفرد أولاً، السرعة قبل التأمل، السوق قبل القيمة. هذا لا يعني أن علينا أن نرفضها، بل أن نُعيد توظيفها ضمن سياقنا الذي يُقدّر التراكم، ويؤمن بالجماعة، ويتكئ على ميراث طويل من المعاني العميقة.
فكّر معي: هل يمكن أن نبني نموذجًا محليًا يجعل من التقنية وسيلة لتعزيز الوعي لا استلابه؟ هل نستطيع أن نُوظف الذكاء الاصطناعي ليكون أداة للعدالة، لا للتمييز الخفي؟ ماذا لو أصبح الابتكار عندنا مرتبطًا بحل مشاكل الحياة اليومية في القرى والمدن الصغيرة، بدل أن يظل حبيس الأبراج العالية في المدن الكبرى؟
الأسئلة كثيرة، لكن ما يُطمئن أن السوق السعودي مليء بالعقول الشابة التي تفكّر خارج الصندوق. رأيت شخصيًا مبادرات طلابية تستحق أن تُدرّس، وأفكارًا جريئة انطلقت من مدن صغيرة وأصبحت نماذج أعمال تقنية ناضجة. هذا يعكس أن الابتكار ليس حكرًا على المراكز البحثية أو الشركات الكبرى، بل هو طاقة خام تسكن الإنسان حين يُتاح له الخيال.
وربما هذا هو جوهر القضية: كيف نتيح الخيال؟ كيف نبني بيئة لا تكتفي بتلقين المهارات، بل تزرع في الإنسان الجرأة على السؤال؟ هذا لا يتحقق بقرارات عليا فقط، بل بمنظومة ثقافية تؤمن بأن التقنية ليست نهاية الطريق، بل بدايته.
دعني أضرب مثالًا بسيطًا: كنت أتحدث قبل أسبوع مع أحد الأصدقاء أثناء تجولنا في إحدى مزارع القصيم عن رغبة في تطوير تطبيق يُساعد المزارعين على معرفة أوقات الري المثلى بناءً على تحليل الطقس المحلي والتربة. قد تبدو فكرة متواضعة، لكنها في عمقها تمثل ما يمكن أن تكون عليه التقنية عندما تُوظف لخدمة المجتمع، لا فقط لإبهار السوق.
مثل هذه المبادرات، حين تجد من يحتضنها ويمدها بالثقة، يمكن أن تُعيد رسم السوق من جديد. لا نحتاج إلى سباق مع الخارج بقدر ما نحتاج إلى انسجام داخلي يُنتج شيئًا نابعًا منّا. إن التقنية ليست اختراعًا جديدًا في جوهرها، بل هي إعادة تركيب للعناصر التي نعرفها بطريقة غير مألوفة. ومن يعرف واقعه جيدًا، يستطيع أن يُعيد تركيبه بأكثر الطرق أصالةً وابتكارًا.
في نهاية المطاف، التقنية ليست تهديدًا ولا خلاصًا، بل مرآة لما نريد أن نكون عليه. فإذا اخترنا أن نراها وسيلة لبناء الإنسان، وتعزيز العدالة، وتحقيق الاستدامة، فإنها ستخدمنا كما نريد. أما إذا تركناها تسير بلا رؤية، فستقودنا إلى أماكن لا تشبهنا.
نحن أمام لحظة لا تتكرر كثيرًا في التاريخ: لحظة يمكن أن نكون فيها منتجين للفكرة، لا فقط منفذين لها. وهنا يكمن التحدي الأكبر… والفرصة الأجمل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال