الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قبل نحو أسبوعين كتبت مقالا بعنوان، “حماية المبلغين عن الفساد”، وقلت في ثنايا المقال إن إحدى المشكلات التي تواجه سوق العمل في السعودية هي التفاوت الكبير في مستويات الرواتب، وإذا كانت هذه المشكلة أصيلة في القطاع الخاص وفيما بين القطاع الخاص والقطاع الحكومي، إلا أنها انتقلت اليوم وبشكل خطير إلى الجهات الحكومية نفسها أو المؤسسات العامة والهيئات التي تحصل على دعمها من ميزانية الدولة “المال العام”، هذه إشكالية يجب أن تحل، وعاجلا، خاصة أنها أصبحت تمثل نقطة خلاف رئيسة بين المؤسسات الرقابية وهذه الهيئات أو حتى بين المجتمع الذي قد لا يجد بعض أفراده ما يوفر لهم لقمة العيش حتى نهاية الشهر بل في يومهم في بعض الحالات، بينما هناك موظفون حكوميون تتجاوز رواتبهم مئات الآلاف من الريالات وشهريا وبلا مبرر منطقي أو تفسير من حجم الإنتاج.
وبالأمس ــــ وتأكيدا لما ألمحت إليه حول هذه المشكلة ــــ طلب مجلس الشورى من مؤسسة الخطوط الجوية السعودية الإفصاح عن مصروفاتها بالتفصيل وخصوصاً بند الرواتب، ذلك أن المبلغ الذي خصص لبند الرواتب قدر بـ 4.6 مليار ريال أي ــــ أي بمتوسط 30 ألف ريال لكل موظف ــــ ومع ذلك فإن موظفي المؤسسة يشتكون ضعف رواتبهم.
وأنا أقول هنا لماذا يشعر المجلس بالاستغراب من شكوى الموظفين عن ضعف رواتبهم، بينما هي 30 ألف ريال عند المتوسط، المشكلة ببساطة أن المجلس اعتمد على رقم المتوسط الحسابي فقط، في فهم سلوك واتجاهات الرواتب في المؤسسة، وهذا مع الأسف ما نفعله عند دراسة بند الرواتب في أي منشأة، ولكنه رقم مضلل جدا والنتيجة والقرارات الصادرة عنه أشد تضليلا. فالمعروف إحصائيا أن المتوسط يتأثر بالقيم المتطرفة سواء بالزيادة المفرطة في قيمة الراتب أو العكس.
وإذا كنا نريد معرفة الوضع بشكل مفصل فعلينا أن نعرف القيم المتطرفة وعددها “أي تلك الرواتب الضخمة جدا وتلك الصغيرة جدا”، وأن نعرف قيمة الانحراف المعياري “حجم التفاوت” في قيمة الراتب بين موظفي المؤسسة، أنا واثق بأنه لو تمت مثل هذه الدراسة في المؤسسة وفي غيرها من الهيئات لهالنا حجم التفاوت في الراتب بين القيادات العليا والمتوسطة والموظفين العاديين، ويمكن أن نفهم إذا لماذا نجد أن قيمة إجمالي الراتب قد وصلت إلى قريبا من خمسة مليارات، بينما الموظفون العاديون مستاؤون منها، ذلك أن كل الهيئات التابعة للدولة وذات الميزانية المستقلة تعاني سوء توزيع سلم الرواتب بينما هناك غزارة في قيمتها الإجمالية.
ما القضية برمتها؟ وبمعنى آخر، ما الضرر في أن يحصل بعض الموظفين في الجهات الحكومية وفي بعض الهيئات التابعة الأخرى على رواتب ضخمة نظرا لاستقطابهم من القطاع الخاص، الذي يدفع مثل هذه الرواتب؟ القضية هي الإنتاج وسياسات توزيع بند الرواتب بناء على قدرتنا ومساهمتنا في الإنتاج. وبشكل عام وفي السعودية بطولها وعرضها نحن نعاني تضخم رقم الرواتب بشكل لا يبرره الإنتاج الذي نقدمه، ومع ذلك فإن مستوى الرواتب الذي تقدمه الدولة للموظفين الخاضعين لسلم الخدمة المدنية مبرر ومفهوم من ناحية أن الراتب يعتبر لدينا جزءا من سياسة توزيع موارد النفط وليست بالضرورة ذات علاقة بإنتاجية الموظف.
لكن كيف نبررها في الجهات الأخرى التي تدفع مبالغ خيالية لبعض الموظفين بلا منطق واضح أو تبرير اقتصادي مقنع؟ إذا لا بد أن تعود أو تقترب الهيئات من مستوى الرواتب الذي تقدمه الدولة وفقا لسلم رواتب الخدمة المدنية، وأقول تقترب وليس بالضرورة أن تتطابق، لكن التفاوت الكبير خطير على الاقتصاد ككل، ولنا في اليونان مثل يحتذى، التي عانت في إقناع المجتمع العالمي بدعمها، بينما هي تسرف في حجم الرواتب للموظفين مما يثقل ميزانها، وعندما عادت لتصحح الوضع هاج المجتمع على الحكومة. وقد حذرت في مقالات سابقة من أن تتكرر لدينا مشكلة اليونان إذا استمرت الدولة تنفق على الرواتب بهذا الشكل الذي لا يبرره حجم الإنتاج، وأن حجم الإنتاج يجب أن يرتفع في كل أجهزة الدولة لمقابلة حجم الرواتب.
وها نحن الآن نقترب من حاجز التريليون ريال من المصروفات واعتمادا على النفط وحده، فلم تسهم أي هيئة أخرى في زيادة إيرادات الدولة أو على الأقل في دفع رواتب موظفيها، كي ترفع هذه المصروفات عن كاهل المال العام، ورغم ذلك ورغم أن هذه الهيئات تعتمد على الدولة في دفع الرواتب وتنفق بسخاء لا حدود له على موظفين معدودين لم يسهموا فعليا في إيجاد موارد للصرف منها على هذا البذخ، وإذا كان الحال كذلك وأن الجميع يعتمد على النفط، فلماذا إذا تتفاوت رواتب موظفي الهيئات عن موظفي الوزارات والجهات الحكومية الخاضعة لسلم الخدمة المدنية ثم لما تختلف الهيئات بعضها عن بعض بهذه الصورة الغريبة ولماذا حتى في الهيئة الواحدة يختلف راتب المدير عن الموظفين بتفاوت ضخم؟
نقلا عن الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال