الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في هذه الفترة المهمة من فترات التنمية في السعودية، تصدرت قضية تعثر المشاريع أهم القضايا التي تناقش على جميع المستويات، فمن مجلس الوزراء إلى مجلس الشورى إلى اللجان الوزارية و«نزاهة» والإعلام بجميع صوره، وحتى المقاولين والغرف التجارية، بل والمجالس الثقافية والعامة. تنوعت الآراء واختلفت الاتجاهات وتقاذف الجميع كرة الاتهامات. لكل منهم تصوره ووجهة نظره حول هذه المعضلة، ورغم النقاش الحاد حول هذا الموضوع ومنذ بدأت مشكلة تعثر المشاريع بالظهور على السطح، فإن القضية في أرض الواقع بلا حلول والتعثر مستمر.
والمستفز أن مشكلة التعثر تتطور كلما تطور النقاش حولها، فمن اتهام مباشر للمقاولين بالفساد وسرقة المال العام، إلى اتهام لائحة المشتريات الحكومية، ثم اتهام المواصفات التي تعدها الجهات الحكومية، وحتى العودة مرة أخرى إلى قضية التسلم والتسليم من المقاولين. ولن يكون من باب المبالغة القول إنه ما من موضوع تشعب النقاش حوله وتم تشريحه حتى كاد يضيع منا كما تم في موضوع تعثر المشاريع، ومع ذلك فما زلنا ننتظر الحل. وهنا مكمن قلقي، لقد طال الحديث والإنفاق الحكومي مستمر ويتعاظم وأخشى أن تتطور القضية من فهم مجرد مشكلة التعثر إلى ما هو أكبر، وذلك أن الموضوع يتشعب واختلط الحابل بالنابل.
فمجلس الشورى مثلا، يرى أن القضية والحل يكمنان في لائحة المشتريات، ولعل التصريحات الشمولية للدكتور سعد مارق رئيس لجنة الشؤون المالية توضح إلى أي درجة عمل مجلس الشورى بجهد وجد في هذا الموضوع، فقد حدد نقاط الضعف في لائحة المشتريات الحالية بعدة بنود منها أن اللائحة تفرض ترسية المشاريع على المقاول الأقل سعراً حتى ولو انخفضت أسعاره بنسبة 35 في المائة عن التكاليف التي توقعتها الجهة الحكومية، ثم الدفعة المقدمة للمقاول، ونظام غرامة تأخير تنفيذ المشروع، وصلاحية تمديد العقد، وضمان عيوب التنفيذ بعد تسليم المشروع، وإسناد الأعمال إلى مقاولين من الباطن، وإعداد المواصفات الفنية للمشروع. هذه أهم النقاط التي ذكرها الدكتور سعد حول لائحة المشتريات، لكن هناك أيضا مشاكل أخرى ذكرها الدكتور سعد لها علاقة بتعثر المشاريع لكن اللائحة لا تغطيها، منها جاهزية موقع المشروع وخلوه من المعوقات أو الحاجة إلى تحويل مسار بعض الخدمات من الموقع. فالواضح من كل هذا أن مجلس الشورى يناقش هذه القضية وسيرفع بمقترحات للحلول، وهذا أمر محمود ولا شك خاصة أن التصريحات تدل على عمق النقاش وجديته.
في المقابل نجد أن هناك لجنة من تسع وزارات وفي اجتماعات متواصلة توصلت “لاحظ كلمة توصلت” لوضع خطط عاجلة طويلة وقصيرة المدى للحد من تعثر المشاريع الحيوية والتنموية بالمملكة، ووفقا للخبر الذي نشرته صحيفة “عكاظ”، فإن هذه الخطط تضمنت 44 بندا معظمها تمس موضوعا واحدا وهو المقاول أو المقاول من الباطن، أبرزها التأكيد على تنفيذ المشروع من قبل المقاول الرئيس الذي قدم العرض، حيث لا تقل عمالته عن 150 عاملا ومنع مقاولات الباطن، وأن يتم سحب المشروع المتعثر فى مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر وعدم احتساب الأعمال والمواد التي في المشروع، وتسجيلها ضمن ممتلكات الدولة فورا دون العودة للمقاولين.
من الواضح أن مجلس الشورى يتعامل مع القضية من طرفه المستقل الحيادي، فهو ينظر إلى المسألة من جميع جوانبها بينما اللجنة الوزارية “وكأنها فقدت استقلاليتها”، قد حملت المقاولين كل المسؤوليات، واقتراح سحب المشروع المتعثر بعد ثلاثة أشهر ومصادرة الممتلكات التي عليه، سيكون مجحفا فيما لو كانت المشكلة – كما أشار إليه مجلس الشورى – خارج يد المقاول، بل في عدم جاهزية الموقع وعدم تعاون الجهات الأخرى التي لها ممتلكات في الموقع كالكهرباء والأبراج أو عدم صرف المستحقات في حينها.
والسؤال الذي يفرض نفسه على هذا المقال هو: لماذا يبدو لي أن كل فريق يعمل منفردا عن الباقين؟ لماذا لا تعمل اللجان الوزارية مع مجلس الشورى؟ لقد كتبت من قبل حول مشكلة عدم التواصل بين الجهات المختلفة، وقلت إن معظم الجهات بدأت تسير بشكل جيد ولكن منفردة، بعيدة عن الآخرين وما يعملون، لهذا فإنه من المقلق جدا أن نجد أن مجلس الشورى قد خطا خطوات جيدة ولديه دراسة متعمقة عن المشكلة وأكثر استقلالية، كما أنه يسعى إلى تطوير نظام كامل وهذا بدوره سيحتاج إلى وقت. بينما في المقابل هناك لجنة تعمل وتفرض تغيرات على السوق، ولعل بعضها كما وضحت لها تعارض مع ما يقوم به مجلس الشورى.
لقد تعلمت منذ زمن بعيد، أن أهم عنصر في عملية اتخاذ القرار هو الفهم العميق لأي مشكلة وأن يتم تحليلها وفهمها بشكل عميق، حتى لو أخذ هذا الفهم نصف الوقت أو أكثر، لقد تعلمت في عملي ومن خلال تجربتي أن القرار يجب أن تتخذه جهة واحدة صاحبة الصلاحية، ذلك أن تشعب القرار يخلق مشاكل جديدة، وأن الفهم الخاطئ للمشكلة يخلق حلا لمشكلة مختلفة وهذا يجعل المشكلة الأساسية بلا حل، بل وقد يضيف مشاكل جديدة، مما يجعل المنظمات تعيش في متاهة حتى تصبح المشاكل ككرة الصوف فتضيع المشكلة الأساسية ويصبح تعريفها صعبا للغاية، وهكذا حتى يصبح الهم مركزا في معالجة القرارات الخاطئة المتراكمة.
في نظري، لا بد أن تعمل اللجنة الوزارية المشكلة من تسع وزارات كما جاء في الخبر جنبا إلى جنب مع لجنة الشؤون المالية في مجلس الشورى، وأن يتم رفع تصور واحد لمشكلة واحدة وحل مناسب لها، بغير ذلك فإن ما سيبذله مجلس الشورى من دراسة متأنية لهذه المشكلة سيضيع هباء؛ لأن اللجنة الوزارية ستعمل على حلول عاجلة وكل منهما في طرف بعيد. وبينما تخلق الحلول السريعة مشاكل جديدة تضاف إلى المشكلة الرئيسة حتى تغيرها، يصدر مجلس الشورى توصياته لمشكلة قديمة لم تعد موجودة، بل تغيرت تماما، بفعل القرارات والحلول العاجلة.
نقلا عن الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال