الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
سعود بن هاشم جليدان
بدأت فكرت الدين العام مع تكون البنك المركزي في بريطانيا عند نهاية القرن السابع عشر الميلادي. وأدى ظهور المصارف المركزية إلى تطور كبير في تمويل الأنشطة الحكومية. وكان الهدف الأساسي من استخدام آلية الدين العام، هو تمويل الأنشطة الحكومية بعد نشوب بعض الحروب التي كانت تشنها الإمبراطورية الإنجليزية في بداية نشأتها. وتلجأ الدول عموماً إلى الاستدانة بكثافة في أوقات الأزمات، وخصوصاً عند الحروب أو لمقابلة التزاماتها تجاه رعاياها، وتجنب مخاطر سقوط الدول أو الاضطرابات السياسية. وقد تطورت فكرة الدين العام مع مرور الوقت وأصبحت جزءا واقعاً من السياسات المالية لدول العالم كافة، وخصوصاً بعد الكساد العالمي في الثلاثينيات من القرن الماضي واضطرار دول العالم لتبني سياسيات مالية توسعية لإنعاش اقتصاداتها المترنحة. وقادت سياسات التخلص من الكساد العظيم والسياسات الاقتصادية التنموية والداعمة للرفاه الاجتماعي إلى تطور الكبير في الخدمات الحكومية، وخصوصاً التعليمية والصحية والرعاية الاجتماعية، وإلى ازدياد كبير في مستويات ونوعية الخدمات الحكومية وتكاليفها مع مرور الوقت، كما ارتفعت الحاجة التنموية إلى التوسع في مشاريع البنية الأساسية، ونمت أعداد موظفي الحكومات في جميع دول العالم بمعدلات كبيرة.
وأدت هذه التطورات إلى رفع نفقات حكومات العالم إلى مستويات تجاوزت فيها إيراداتها، وتراكمت العجوزات المالية لدول كثيرة من دول العالم، مما أجبر هذه الدول على تدبير شؤونها المالية من خلال تبني سياسة الاقتراض من السوق المحلية، بل اضطرت دول كثيرة إلى الاستدانة من الأسواق الدولية للوفاء بالتزاماتها الدولية عند تراجع فوائض موازينها الخارجية. ويرى متخذو السياسات أن الاستدانة من الأسواق وتكون الدين العام أقل ضرراً بمراحل من السياسات البديلة المتمثلة في زيادة أو فرض رسوم وضرائب جديدة لمقابلة الزيادة في النفقات، أو خفض الخدمات الحكومية، أو طباعة النقود. ويعد المختصون الخيارات المطروحة أسوأ بديل للاستدانة من الناحية الاقتصادية والسياسية. وقد جربت كثير من دول العالم سياسة طبع النقود وكانت النتائج كارثية، متمثلةً في معدلات تضخم فلكية وفقدان الثقة بالعملات المحلية وتحولها إلى أشبه ما تكون بكومة من الأوراق المطبوعة، مما نتج عنه تدهور الأوضاع الاقتصادية لمعظم السكان. من جهة أخرى ستقود زيادة مستويات وأنواع الرسوم والضرائب الجديدة وبمعدلات عالية إلى امتعاض ومقاومة معظم الشرائح السكانية، وقد تتسبب في إحداث اضطرابات قوية نتيجةً لآثارها السريعة والمباشرة على حياة الأفراد والأسر. وسيقود فرض أو زيادة الرسوم والضرائب إلى خفض الدخول المتاحة، ويتسبب في رفع معدلات البطالة وانكماش الطلب الخاص والنشاط الاقتصادي، مما يفاقم من تأثير الضرائب الإضافية. وينطبق التحليل نفسه على خفض مستويات الخدمات والمنافع الحكومية، حيث إن خفض هذه المستويات سينتج عنه خفض التوظيف الحكومي والخدمات المقدمة، مما يؤدي إلى ضغوط انكماشية على الاقتصاد. ولهذا يُعرض صانعو القرار عن استخدام السياسات البديلة للاستدانة لارتفاع تكاليفها السياسية والاقتصادية.
والدين الوطني أو الدين الحكومي عبارة عن إجمالي العجوزات الحكومية المقدمة للحكومة المركزية المتراكمة مع مرور الزمن. ويزداد حجم الدين الوطني مع زيادة حجم هذه العجوزات وتراكمها المستمر. وينظر كثير من الناس إلى الاستدانة أو الدين على أنه أمر سيئ وينبغي تجنبه، ولكن قد يعظم الأفراد والمؤسسات دخولهم وأرباحهم وثرواتهم عن طريق الاستدانة، ولهذا فإن الدين ليس بالأمر السيئ الذي يعتقده كثير من الناس. ويلجأ الميسورون من الأفراد والمؤسسات عالية الأرباح إلى الاقتراض، ويسري الشيء نفسه على الدول الغنية التي تحاول تعظيم عوائد الدخل ومستويات الثروة. ولهذا فإن المنطق الاقتصادي يفصل بين تصرفات الاستدانة والاستثمار المتعلقة بالأفراد والمؤسسات والدول، حيث يمكن للشخص الغني أن يستدين لشراء أصول أو مقابلة التزامات إذا كانت تكلفة الاستدانة أقل من تكاليف بيع أصول مالية أو غير مالية. وساعد الاقتراض كثيرا من الأفراد والمؤسسات الخاصة على النجاح والنمو وتحقيق أحلام الثروة والرخاء، وذلك عند استثمارها بالتوقيت والمجالات الرابحة والمنتجة. ويمكن للدول أيضاً أن تحقق نجاحات اقتصادية وتنموية كبيرة عن طريق الاقتراض لو تمت في الوقت المناسب وأنفقت على استثمارات بشرية ومادية مجزية. ولهذا لا يمكن النظر دائماً إلى الاقتراض أو الدين على أنه شيء سلبي فقد يؤدي عدم استخدامه إلى تراجع معدلات النمو والرفاه الاقتصادي أو الوقوع في أزمات اقتصادية حادة تؤدي إلى عواقب سيئة على البلاد والعباد. من جهةٍ أخرى لا يمكن تجاهل كون الدين الوطني إحدى السياسات المالية الفاعلة المساعدة على تحقيق الاستقرار الاقتصادي سواءً بالحد من معدلات التضخم أو زيادة معدلات النمو الاقتصادي أو تلطيف آثار التقلبات الحادة في مستويات الإيرادات الحكومية. وإضافة إلى ذلك يرى كثيرون أن الدين الحكومي المحلي هو ثروة للقطاع الخاص، حيث يستثمر الأفراد والمؤسسات فوائضهم المالية في السندات والصكوك الحكومية، كما تعد مدفوعات خدمات الدين دخلا للقطاع الخاص. وعموماً فإن الدين الحكومي من الناحية الاقتصادية لا يعتبر أمرا سيئا ما دام ينفق على الاستثمار أو لمجابهة أزمات حادة ومؤقتة، على أن يكون معظمه أو كله محلياً وفي حدود معقولة تستطيع الدول التعامل معها. ويمكن أسلمة الدين العام من خلال استخدام وسائل الاستدانة المتوافقة مع الشريعة، حيث يمكن تسنيد كثير من الأصول الحكومية وبيعها كصكوك أو من خلال استخدام وابتداع وسائل أخرى متوافقة مع الشريعة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال