الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هناك توجه عالمي في العقود القليلة الماضية يدعو نحو تصغير حجم دور الحكومة في الاقتصاد. وينطلق هذا التوجه من النظرية الاقتصادية الكلاسيكية للرأسمالية التي تبناها عدد من الاقتصاديين الأوائل وأبرزهم آدم سميث الذي تحدث في كتابه المشهور “ثروات الأمم” عن أهمية آلية السوق في تحقيق كفاءة استخدام وتوزيع الموارد الاقتصادية بتنظيم ذاتي أسماه “اليد الخفية”. حيث ترتكز نظريته على دافعية الأفراد والتنافس فيما بينهم في تحقيق مصالحهم الشخصية التي تؤدي إلى زيادة الإنتاج وخفض التكلفة، وهذا بالضبط ما تعنيه الكفاءة. بل إن النظرية تذهب إلى أبعد من ذلك في أن المنفعة المجتمعية هي حصيلة مجموع المنافع الفردية، أي أن تحقيق المنفعة الفردية أساس المنفعة المجتمعية.
ولذا يرى الاقتصاديون الكلاسيكيون أن تدخل الحكومة في الاقتصاد يعيق آلية السوق ويفسد انتظامه. وهذا الربط بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة هو ما تقوم عليه فلسفة النظام الرأسمالي بل إن تسمية النظام بالرأسمالي تعكس أهمية رأس المال في العملية الإنتاجية التي منحها النظام مقارنة بباقي مدخلات الإنتاج وعلى رأسها الموارد البشرية.
وبعبارة أخرى أكثر وضوحا يمتلك رجال الأعمال اليد الطولى في عملية صنع القرار في الاقتصاد والمجتمع، وبالتالي الحصول على النصيب الأكبر من عائد الإنتاج الوطني. واشتراط تحقيق المصلحة الخاصة لتحقيق المصلحة العامة لا يقتصر على الجانب الاقتصادي بل يتعداه ليشمل الجانب السياسي، حيث تتحول الحكومة إلى حماية المصالح الخاصة بحجة حماية المصلحة العامة، وهكذا يُبنى النظام السياسي ويتشكل في التوأمة بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية. ليصبح نظام اقتصاد السوق الوجه الاقتصادي للديمقراطية السياسية، وكأنما لا تصح الحرية السياسية دون الحرية الاقتصادية والعكس صحيح. وبهذا يضمن رجال الأعمال سيطرتهم على الاقتصاد والمجتمع. ففي النظم الديمقراطية تؤثر جماعات المصالح على القرارات الحكومية وبالتالي يستطيع النافذون والمؤثرون بقدراتهم المالية الهائلة جذب تلك القرارات لصالحهم.
وفي المشهد الوطني نجد أن رجال الأعمال المستفيد الأكبر من الإنفاق الحكومي بطريقة مباشرة من خلال القروض الميسرة ونظام المشتريات الحكومية الذي يفرض شراء المنتجات المصنعة وطنيا في المشاريع الحكومية وبطريقة غيرة مباشرة، حيث يستفيدون من الخدمات العامة بمعدل أكبر من عموم الناس دون تحمل أية تكلفة. وقد تكون البنوك التجارية أكثرها على الإطلاق في الاستفادة من الاقتصاد الوطني دون مساهمة تذكر في التنمية الوطنية سوى تبرعات خجولة للاستهلاك الإعلامي تُغلف على أنها برامج للمسؤولية الاجتماعية.
ولذا كانت هناك حرب ضروس شنها رجال الأعمال في الولايات المتحدة وغيرها من الدول في الثمانينيات من القرن الماضي ــــ وما زالوا ــــ ضد توسع دور الحكومة بل السعي إلى تحجيم ذلك الدور لتكون لهم الغلبة في تسيير الاقتصاد بأقل تكلفة “أقل ضريبة” والتأثير الأكبر على القرارات السياسية. وهذا يفسر تحكم الأقلية اليهودية في اقتصاد وسياسة دول عظمى مثل الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا. لقد التقى الفكر السياسي لليمين المتطرف مع المصالح الخاصة وبدأ الترويج لمفاهيم جديدة مثل العولمة وحقوق الإنسان وحرية التعبير ظاهرها الرحمة وباطنها الاستحواذ والسيطرة على المجتمعات المغلوبة على أمرها. وهذا التمدد جاء بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وتأكد فشل النظريات الاشتراكية والشيوعية والتي تعتمد على التخطيط المركزي الشمولي وتلعب فيه الحكومة الدور الرئيس بل الوحيد.
لقد كانت دعوة تقليص دور الحكومة في المجتمع الوتر الذي عزف عليه رجال الأعمال للسيطرة على الاقتصاد والحصول على أكبر حصة من الكعكة الاقتصادية. لكن كيف للاقتصاد أن ينهض وتتم العملية الإنتاجية دون بنية تحتية وسياسات وتشريعات حكومية؟ رجال الأعمال لا ينكرون أهمية دور الحكومة في الاقتصاد ولكنهم يرون اختزاله فيما يخدم العملية الإنتاجية “مصالحهم” ليس إلا، فلا برامج إعانة اجتماعية ولا صحة ولا تعليم حكومي، أي التقليل أو حتى إلغاء برامج الرفاهية الاجتماعية. بل أطلقت دعوة نحو تحويل الإدارة الحكومية للعمل بنظام إدارة الأعمال تحتى مسمى الإدارة العامة الجديدة. كان القصد من ذلك تأكيد تلك العلاقة بين المصالح الخاصة والعامة، وهذا ليس فقط فيه تشويه لحقيقة الإدارة العامة وتميزها عن إدارة الأعمال كمدافع عن المصالح والحقوق العامة، بل إنه أمر خطير ومدعاة للفساد الإداري. فهذا التوجه يعني إدارة المجتمع والتنمية كإدارة الشركات الخاصة وشتان بين الاثنين بالدافع والحجم.
وهناك حقيقة يجب ملاحظتها وهو أن كبر حجم الاقتصاد لا يعني كبر حجم الحكومة فقد يكون المتحكم في القرار الاقتصادي القطاع الخاص، وبالتالي يجب ألا يختزل النقاش حول حجم الحكومة المثالي الذي يحقق الكفاءة الاقتصادية وحسب، ولكن هناك اعتبارات اجتماعية ومصالح عامة يلزم أخذها بعين الاعتبار ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاعتماد على القطاع الخاص في إدارة وتوجيه التنمية الوطنية. فالقطاع الخاص بطبيعته الأنانية لا يملك الرؤية المجتمعية المشتركة كما أنه يعتمد في اقتصاد ريعي مثل الاقتصاد السعودي على الإنفاق الحكومي.
ولذا نجد في جميع المؤتمرات والندوات الاقتصادية التي ينظمها القطاع الخاص مطالبة بمزيد من الدعم الحكومي وتقليل التشريعات المحققة للمصلحة العامة. فنظرة القطاع الخاص للحكومة كمطية وليس كشريك في التنمية الوطنية. ولذا لم يكن مستغربا الدعوة نحو تقليص برامج الإدارة العامة في الجامعات السعودية والتوجه نحو إدارة الأعمال كبديل، وهو أمر لا يستقيم ولا يتوافق مع اختلاف بيئة العمل الحكومي ومعاييرها المهنية وأخلاقياتها. لابد من فهم إذا كان القطاع الخاص يجيد التجديف؟ لا يعني أن بإمكانه التوجيه فهذه مسؤولية الحكومة.
وإذا كان كذلك فلا بد من إعادة النظر في السياسات الحكومية خاصة المالية لضمان استفادة جميع مكونات المجتمع من الإنفاق السخي، حيث يكون الدعم والعقود الحكومية للمشاريع الخاصة مرتبطة بمدى استفادة عموم المواطنين منها وما تضيفه من قيمة للاقتصاد الوطني. وسيظل النقاش قائما حول تحديد من؟ يحصل على ماذا؟ والبحث عن آلية تحقق الكفاءة من جهة والعدالة الاجتماعية من جهة أخرى من خلال الموازنة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
-نقلا عن “الاقتصادية”
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال