الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قبل الإجابة عن هذا السؤال؛ أؤكّد أنّ منطق هذا المقال وما سبقه من مقالات لا يتحدث عن فكّ ارتباط الريال مع الدولار، وأنّه يتركّز فقط على إعادة دراسة سعر الارتباط الراهن بين العملتين، وضرورة خفْض سعر الدولار أمام الريال، بالمنهجية التي تعيد إلى الريال السعودي قوته
الشرائية، التي فقد منها نحو 31.5 في المائة، استنادا إلى أسعار 1999 (المعامل الضمني لانكماش القطاع غير النفطي). ذلك أنّ الاقتصاد السعودي لم يصل إلى الدرجة من التنوّع الإنتاجي التي تؤهله لتعويم عملته في الأسواق، وكون تنوع قاعدته الإنتاجية لا تتجاوز مساهمتها في
إجمالي الناتج المحلي أكثر من 11.8 في المائة طوال 44 عاماً من عمر خطط التنمية السابقة، وهو ما تظهره نسبة الصناعات التحويلية باستثناء تكرير الزيت منذ 1970 حتى نهاية 2013.
أعود إلى الإجابة عن سؤال المقال، فأقول إنّه الفرد (المواطن، المقيم) العامل، والمعتمد على مصدر دخلٍ وحيد من الأجر الثابت الذي يتقاضاه لقاء عمله. بينما تتوافر لبقية الأطراف داخل الاقتصاد الخيارات التي تمكّنها من تسوية أية انخفاض في القوة الشرائية للريال، عبر قدرتها على
رفع أسعار الأصول المملوكة لديها كالعقارات والأراضي والسلع المعمرة، أو عبر رفع أسعار مبيعاتها وخدماتها إلى مجتمع المستهلكين، سواء المصنّعة محلياً أو المستوردة من الخارج “وهي الأغلب”. وكما يُلاحظ أنّ الخيارات المتاحة أمام طبقة المعتمدين على أجورها الشهرية فقط، لا تتجاوز:
1) الزيادة في مستوى الأجور، التي سرعان ما سيخطفها التجار وملاك الأصول، كما أثبتته التجارب الأخيرة.
2) اللجوء إلى الاقتراض من البنوك التجارية والأقارب والأصدقاء، لتعويض ارتفاعات الأسعار التي لم ولن تجاريها مستويات الأجور الراهنة.
3) اللجوء إلى إيجاد عمل إضافي أو ممارسة أنشطة تجارية تعوّض انخفاض قدرة الدخل على مواجهة أعباء المعيشة الباهظة.
4) اللجوء إلى القنوات غير الشرعية؛ كقبول أو طلب الرشوة أو الاختلاس أو السرقة أو أيّ قناةٍ من القنوات المخالفة للأنظمة، كالتستر التجاري على العمالة الوافدة المخالفة لأنظمة الإقامة في البلاد.
لقد أصبحت مقولة “ارتباط الريال بالدولار الأمريكي، حققتْ وتحقق للاقتصاد السعودي الاستقرار” موقع شكّ، وتحتاج هذه المقولة إلى إعادة فحص واختبار وتدقيق. فعن أيّ استقرار تتحدث به هذه المقولة التي تصدر دائماً من داخل أروقة وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي؟ وهل تعتبر هاتان الجهتان تعرّض دخل الفرد للانخفاض بأكثر من 31.5 في المائة خلال أقل من عقدٍ من الزمن استقرارا، أم أنّه غير محسوبٍ
ضمن معادلة “الاستقرار” التي تتحدثان عنها؟ دعْ عنك الانخفاض في القوة الشرائية للريال منذ أكثر من 28 عاماً مضتْ، حينما تمّ تثبيت سعره مقابل الدولار الأمريكي بـ 3.75 ريال للدولار، والذي سيُظهر نسبا باهظة دون أدنى شك، قياسا على الانخفاض الكبير الذي تعرّض له الدولار الأمريكي، نتيجة الأزمات والضعف والمديونيات الهائلة التي وقع ضحيتها الاقتصاد الأمريكي، على عكس الاقتصاد السعودي الذي
ظل يحقق معدلات نمو قوية خاصةً خلال العقد الأخير، إضافةً إلى تحسّن مستويات السيولة المحلية، وانخفاض مستويات العجز في الميزانية وميزان المدفوعات ثم تحوّلها إلى تحقيق فوائض تاريخية غير مسبوقة، انعكستْ على تحسّن الأوضاع المالية والاقتصادية، وأسهمتْ في زيادة
قدرة الحكومة على خفْض مستويات الدين العام، وبناء احتياطيات في الخارج، لم يسبق للاقتصاد الوطني أن وصلها من قبل. شتّان بين حالتي الاقتصادين السعودي والأمريكي في الوقت الراهن، وشتّان بين قيمة عملتي كل اقتصاد منهما قياساً على ما يتمتّع به اقتصادنا، وما يعانيه
الاقتصاد الأمريكي! ولعلّه سؤال يستحق الإجابة من كلٍ من وزارة المالية ومؤسسة النقد: ما وجه التشابه بين حالة كلٍ من الاقتصادين السعودي والأمريكي بين عامي 1985 و2014؟
لا شكّ أنّ إحداث أي خفْض لسعر الدولار أمام الريال سينتج عنه تطورات بالغة العمق، والسبب الأكبر يعود إلى فترة التأخير الكبيرة في عدم أخذ التغيرات الهائلة التي طرأت على الاقتصادين السعودي والأمريكي وعملتيهما طوال تلك الفترة، ولكن في المقابل تظل المنهجية التي سيتم الاعتماد عليها في اتجاه تحقيق هذا الهدف المنشود عاملا بالغ الأهمية، علماً أنّ الخيارات الواسعة التي يتمتع بها اقتصادنا الوطني في الوقت
الراهن، تتيح له القدرة الكافية للقيام بهذه الخطوة المهمّة، كما أنّها ستسهم في حلّ كثير من التحديات التنموية التي يواجها الاقتصاد والمجتمع. وكما سبق ذكرتُ في مقالات سابقة؛ أنّ جميع الخيارات “الإبقاء على سعر الصرف الراهن، أو خفْضه” تتحمّل في طياتها تكلفة اقتصادية ومالية، وأنّ المحك في هذا الشأن المفترض أن يبدأ المخطط الاقتصادي بالتفكير فيه، ينطلق من ضرورة الإجابة على: 1) من يتحمّل تكلفة كل خيار؟ وكما يُلاحظ أنّ الخيار الراهن يتحمّل تكلفته المواطن فقط. 2) أي الخيارين يدفع بالاقتصاد الوطني نحو الازدهار والنمو والتنوّع الإنتاجي؟ خاصةً أننا نعلم التكلفة الباهظة التي تتحمّلها الحكومة لقاء دعْم الاستهلاك المحلي لموارد الطاقة، والتي تحوّل اللجوء إليها على الرغم من تكلفتها الباهظة إلى مجرّد “ستر” للقصور الذي تعانيه السياسات الاقتصادية الراهنة!
وقبل المضي قدما فيما سيأتي من مقالات حول هذا الموضوع، أجد أنه من الأهمية تذكير المخطط الاقتصادي بما سبق ذكره في نهاية المقال الأخير، بخصوص بعض المحاذير، التي يتحدث عنها البعض من تكلفة ارتفاع فاتورة الصادرات وانخفاض قيمة الاحتياطيات المودعة في الخارج بالدولار الأمريكي، أن يتذكّر دائماً: 1) أنّ تكاليف خفْض قيمة الدولار أمام الريال مهما بلغت تظلُّ أدنى من التكلفة الباهظة التي
يكابدها المجتمع “الأفراد العاملون” تحديداً، فيما لا يشاركه أي طرفٍ آخر من الأطراف في تحمّلها، وهو ما ينقض تماماً مقولة أنّ ربط سعر الريال بالدولار الأمريكي وفق سعره الراهن تحقق الاستقرار للاقتصاد الوطني! 2) أنّ التكلفة المزعوم تحمّلها إذا ما تم خفْض قيمة الدولار
أمام الريال “متحققة” فعلياً في الوقت الراهن؛ ممثلةً في تراجع القوة الشرائية للريال! غير أنّ من يتحمّل تكلفتها وحيداً هنا هو الفرد، في حين أنّ ملاك الأصول المنتجة والعقارات والأراضي والمقرضين “البنوك” تتوافر لديهم القدرة الكاملة على تجنّب تراجع القوة الشرائية للريال، من
خلال رفع أسعار كل من مبيعاتهم “المنتجة، أو المستوردة”، أو زيادة أثمان الأصول المملوكة من أصول وعقارات وأراض، وبهذا يتركّز “ضعف القوة الشرائية للريال” على الفرد العامل فقط! وللحديث بقية. والله ولي التوفيق.
-نقلا عن “الاقتصادية”-
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال