3666 144 055
[email protected]
في الغالب، يجتمع الآن في مكان وزمن واحد الجد والأب والابن، ذكورا وإناثا، كل يحمل في ذاكرته سجلات مختلفة من فصول الحياة، تتقاطع بودٍّ وألفة ووئام في يوم عيد الأضحى المعظم، عنوانها العام “لقاء الأجيال”، كل جيل له آثاره وذكرياته وتاريخه، تجد تجربة كل فرد مع جيله الذي عاصره مطبوعة في ذاكرته، كل حسب تجربة حياته التي عاشها بكل تفاصيلها. يتخيل الكاتب هنا حوارا قد يدور بين الأجيال الثلاثة الأخيرة، يرمي من خلاله إلى بث رسالة لا بد أن تدون وتحكى، تحمل فكرة يأمل الكاتب ألا تغيب عنا في هذا الزمن، وألا تغيب عمن سيأتي بعدنا من الأبناء والأحفاد، رأسمالها الإيمان بالله والعمل الصالح، ثم حفظ وحدة الأمة والوطن، وحمل الأمانة على أكمل وجه، قدر استطاعة كل فرد ينتمي إلى هذه الأرض وأهلها الخيّرين.
الجد: أتى علينا حين من الدهر، أذاقتنا أيامه مرها في البدء أكثر من حلوها الآتي في الأخير، منحنا الصبر على شقائها لقرب الناس إلى الناس، وسؤال البعض عن البعض. أبنائي؛ ما زلت حتى الآن، أشتم كذكرى لا أنساها أبدا، رائحة الساحة الرطبة بالماء لمسجدنا القديم، وأتذكر تلك الوجوه الخيّرة، رحم الله من مات منهم، وأدام خيره وكرمه وعافيته على من ما زال حيا منهم. يا أبنائي؛ الدنيا وإن ابتسم وجهها أياما، فإن لها أياما أخرى – وما أكثرها – يكون وجهها مكفهرا لا أمان له، لا ينفع معها إلا إيمان صلب وعمل صالح، إنها الباقيات الصالحات. لكأن عشرات السنين الماضية من عمري الطويل مجرد لحظات، أسترجعها الآن معكم بحلوها ومرها في لحظات تكاد لا تذكر، وإني لأرجو من خالقي أن ألقاه وهو عني راض، وأن يتجاوز عن تقصيري بالعفو والغفران. إنها لنعمة من الله علي بها أن أكون معكم وبينكم أبنائي، ننعم جميعنا في أمن ورخاء بلادنا، وها أنتم ترون مآل من هم حولنا من العالمين، نسأل الله اللطف بهم وعودة الاستقرار إلى ديارهم بعد شتاتهم، وأن يحفظ لبلادنا وأهلها أمننا واطمئناننا.
الأب: أبي الحبيب، جزاك الله ووالدتي عني وإخواني وأخواتي خير الجزاء، أشهد لكما بأنكما كنتما نعم الوالدين. تعلمنا منكما الكثير من أمور ديننا، وطيب الأخلاق، وحسن التعامل مع الآخرين. كانت بالنسبة لي المرجع الأهم في جهاد حياتي، كسبت بها أعز الإخوة والأصدقاء، ووقتني شر معرفة كل من في نفسه سوء خلق أو خبث نية. تعلمت في حياتي الصبر على كبد الحياة، وعرفت لذة النجاح بعد صراع التحديات والمعوقات، صقلت شخصيتي كلماتك ونصائحك التي لا ولن أنساها والدي، ومعها التجارب التي مررت بها. أدركت أن المرء يكون ذا قيمة ومحل ثقة عند ربه وعند العالمين؛ بتمسكه بالدين والمبادئ والخلق والعمل المخلص لوجهه تعالى، وأن حطام الدنيا مهما بلغت قيمته في غياب أو نقص تلك الأسس العليا، مآله إلى الزوال في ميزان يوم الحساب، وأن من تعلق قلبه وعقله بالثوابت بقي راسخا في وجه المصاعب الكأداء، وأن من تعلق هواه وطمعه بقشور الحياة وبريقها الزائف، تقاذفه قدره في مهب الرياح، تعلو به يوما وتهوي به يوما آخر، فمهما علا شأنه بين القوم إلا أنه يرى في قرارة نفسه أنه أدنى منهم جميعا، وإن هوت به وجدته يائسا فاقد الأمل حتى من رحمة الله، فما أسعد من عمل بالباقيات الصالحات، وما أتعس من بخس نفسه عند الزائلات الفانيات.
الابن: حفظكم الله لنا جميعا، لا أزيد على حديثكما العطر، وماذا أزيد على خلاصة تجارب الرجال السابقين بالإيمان والمعروف؟ إلا أن أقول إنه كان البلسم الشافي لكل ما أحمله من قلق التفكير في الحاضر والمستقبل، فمن توكل على الله فهو حسبه، هو نعم المولى ونعم النصير. كم هو جيلنا بأمس الحاجة إلى كلماتكم وأحاديثكم المصقول جوهرها الحقيقي بتجارب الحياة، فنعلم يقينا أن مواجهة تحدياتها وإن صعبت؛ ليست بذات شأن مع الإيمان والعمل والصبر والاحتساب، وأن قدر ابن آدم مجاهدة كبد دنياه، وأنه وإن تلظى ببعض الشقاء من باب، فإنه ينعم من أبواب أخرى بنعم خالقه التي لا ولن يوفها العبد حقها حمدا ولا شكرا لوجهه الكريم، فله الحمد والشكر والامتنان. كم نخطئ في حق أنفسنا قبل غيرنا؟ وكم نرتكب من الحماقات؟ أن يتهيأ لنا ونتوهم كجيل أننا أكثر معرفة وقدرة وتجربة ممن سبقونا، وقعنا ونقع دوما في خطأ عدم التفرقة بين تعدد وتنوع خيارات الحياة من جانب، ومن جانب آخر ضآلة التجربة والخبرة والصبر على اختيار الأفضل بينها! خلط يدفع ثمنه باهظا من يقع فيه إن عن جهل عقل أو كبر نفس، فالخيارات ليست إلا مجرد أدوات، في حين أن صلب وقوام اختيار أي منها ومن ثم توظيفه واستغلاله قائم على رأسمال المرء من دينه وخلقه وتجربته في الحياة، ومن أين ستأتي الأخيرة إن هو قطع صلته نكرانا بمن سبقوه؟ ومن كانوا قد حققوا أفضل منه عملا وأثرا، بخيارات هي أقل عددا مما أتاحه له عصره؟
إن على المرء في مثل اليوم المعظم، أن ينتهز فرصة صفاء نفسه مع الأنفس المحيطة به، ليعزز همته بالحب والأخوة والتسامح والوفاء والتضحية، وذاك هو بحق المعنى الحقيقي للعيد، وهو ما قام عليه عيد الأضحى بالتحديد. فيسترجع المرء كثيرا مما فاته ويفوته في غمرة أيامه طوال أيام العام، التي قد ينغمس رغما عنه في أشغالها وهمومها وحتى أفراحها وأحزانها، وما أكثرها في زماننا هذا، حتى أن أغلبنا جراء مكابدة الدنيا؛ يخيل إليه أنه وحيد غريب في قفرة من قفار الأرض! على أن استشعار إيمانه بالله واستعادته لقوته في قلبه، والصبر على العمل المخلص، وتذكره من هم حوله بالتضحية لأجلهم لوجهه الكريم، سيجد فيه القوة والعزم، وأن حياته لها مغزى أسمى وأعظم من أن يدب إلى قلبه ذرة من اليأس والقنوط (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكانت خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكانت خيرا له).
إني لأمد يدي لكل من عرفته، قريبا كان أم بعيدا، بطلب الصفح والعفو عن أي تقصير أو خطأ بدر مني، وما أكثر تقصيري وخطأي، وإن أتى منكم فإنه الفضل والعفو الذي أنتم أهل له، مشهدا إياه جلت قدرته أني قد صفحت وعفوت. سائلا الله الذي لا إله هو الحي القيوم، أن يطهر قلوبنا جميعا من الضغائن، وأن يحفظ بلادنا وأهلها قيادة وأمة من كل سوء ومكروه، وأن يعيد هذا العيد علينا جميعا ونحن في خير أعم، وأمان أكثر، ورخاء أوسع. والله ولي التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734