3666 144 055
[email protected]
يأتي هذا المقال أو الإجابة عن عنوانه، كتمهيد بالغ الأهمية للإجابة عن السؤال الآخر الأهم؛ ماذا سنواجه أثناء فترة تراجع أسعار النفط؟ إذ لا يمكن الوقوف على إجابة محددة للسؤال الثاني، دون التعرف على إجابة سؤال مقال اليوم! فما سنواجهه مستقبلا في أغلبه، ليس إلا نتائج وإفرازات لتلك الحقبة الماضية، بإيجابياتها وسلبياتها على حد سواء. فالإيجابيات المتحققة يفترض أن توظف التوظيف الأمثل لدعم الاستقرار وتحفيز النمو اقتصاديا، والعمل بصورة أكثر تركيزا على إيجاد المشروعات الإنتاجية وتوسيع نشاطاتها، بما ينتج عنه توفير فرص عمل كريمة للمواطنين، واستعجال خطوات تنفيذ المشروعات الحكومية، مع التركيز الأكبر على المتعثر منها وهي بكل أسف النسبة الأكبر. وبالنسبة للسلبيات التي أفرزتها الحقبة الماضية؛ فلا بد أن تأتي في مقدمة أولويات السياسات المرتقبة، والعمل مبكرا على إيجاد الحلول اللازمة لامتصاص الصدمات المحتملة جراء تراجع سعر النفط، وقد تأتي التطورات في بعض جوانبها مفيدة للاقتصاد والمجتمع كالتراجع المحتمل في مستويات التضخم، وتحديدا في سوق الإسكان والأراضي، ما يعني زوال الصعوبات التي واجهتنا سابقا في هذا الخصوص، وضرورة انتهاز فرصة العامين القادمين على أقل تقدير لمعالجة هذه الأزمة المفتعلة من الأساس. الآن آتٍ للإجابة عن سؤال المقال، كمقدمة للإجابة عن سؤال المقال القادم.
قاد الارتفاع القوي للنفط خلال العشرة أعوام الماضية بنحو 208 في المائة، إلى إحداث تحولات هائلة جدا على المستوى المالي والاقتصادي محليا، ارتفعت معه الإيرادات السنوية للدولة من 293 مليار ريال بأكثر من أربعة أضعاف، لتتخطى سقف 1.2 تريليون ريال، رافقها ارتفاع مماثل في النفقات من 257 مليار ريال إلى أن ناهزت 1.0 تريليون ريال، وتحول العجز المالي إلى فوائض غير مسبوقة، مكنت المالية العامة من خفض الدين الحكومي الكبير من 685 مليار ريال (98 في المائة من إجمالي الناتج المحلي)، إلى ما دون 75 مليار ريال (2.6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي).
كما ترتب عليها ارتفاع الفوائض المتراكمة، يقدر أن تصل وفقا لميزان الاستثمار الدولي للمملكة نهاية العام الجاري إلى 4.3 تريليون ريال (2.8 تريليون ريال أصول احتياطية، 1.5 تريليون ريال استثمار مباشر وحافظة واستثمارات أخرى)، وارتفاع مخصصات المشروعات الحكومية من 33.5 مليار ريال سنويا، إلى أن وصلت لنحو 428 مليار ريال المقدرة للعام الجاري، بمجموعٍ تراكمي بلغ 2.1 تريليون ريال للفترة. وارتفعت الصادرات من 350 مليار ريال (308 مليارات ريال صادرات نفطية)، إلى أن ناهزت 1.5 تريليون ريال (1.3 تريليون ريال صادرات نفطية)، صاحبها ارتفاع الواردات من 156 مليار ريال إلى 630 مليار ريال، ليرتفع الحساب الجاري من 105 مليارات ريال (13 في المائة من إجمالي الناتج المحلي)، وصل في 2012 لنحو 618 مليار ريال (23 في المائة من إجمالي الناتج المحلي).
وتلبية لمتطلبات التوسع في النشاط الاقتصادي، وتنفيذ المشروعات الحكومية العملاقة، ارتفعت استثمارات القطاع الخاص بدعم من الإنفاق الحكومي الكبير، وزاد استقدام العمالة الوافدة من 621.3 ألف عامل في 2003 إلى أن تجاوز 2.6 مليون عامل في 2012، وليصل مجموع التأشيرات المصدرة خلال الفترة لأكثر من 19.1 مليون تأشيرة عمل، وبلوغ إجمالي العمالة الوافدة اليوم لنحو عشرة ملايين عامل.
كل تلك التطورات المشار إليها أعلاه على وجه السرعة، صاحبها تشكل العديد من التحديات الجسيمة أمام الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، فقد تعرضت السوق المالية لانهيار حاد في 2006، نتيجة الإفراط في تشكل فقاعته السعرية 2003-2005، نتج عنها خروج ثروات طائلة من السوق، تدفقت لاحقا في أرجاء الاقتصاد المحلي المختلفة، نتج عنها بدء موجة من التضخم ضربت أسواق العقار والسلع والمواد والخدمات، ومع ارتفاع حجم السيولة المحلية نتيجة استمرار ارتفاع سعر النفط بصورة غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد العالمي مطلع 2008، مقابل ضيق قنوات الاستثمار والتشغيل محليا، تفاقم ارتفاع الأسعار وتضاعف تآكل القوة الشرائية للريال، ليرتفع متوسط أسعار المنتجات العقارية (المساكن على اختلاف أنواعها) بأكثر من خمسة أضعاف متوسط أسعارها في بداية الفترة (ثلاثة أضعاف ارتفاع سعر النفط)، وارتفاع متوسط أسعار الأراضي السكنية بأكثر من سبعة أضعاف متوسط أسعارها في بداية الفترة (أربعة أضعاف ارتفاع سعر النفط).
أدت الإفرازات الأخيرة إلى تآكل مدخرات أغلب الأفراد جراء انهيار السوق المالية، وتآكل دخولهم الثابتة جراء تفاقم مستويات التضخم (تآكل الدخل الحقيقي لما دون 45 في المائة من الدخل الاسمي)، ولم تجد نفعا زيادة الأجور التي جاءت في مرحلة لاحقة، ومع استمرار توسع تلك الإفرازات وتعمقها ارتفعت معدلات المديونية على الأفراد لمواجهة أعباء المعيشة المتصاعدة، لترتفع من 75.9 مليار ريال بداية الفترة إلى أكثر من 333.5 مليار ريال نهاية الفترة (أكثر من 4.4 أضعاف). كما فاقم من مضاعفاتها الارتفاعات القياسية التي شهدتها السوق العقارية، نتج عنها تفاقم أعداد السكان غير القادرين على شراء مساكنهم (نسبة ملكية للسعوديين لا تتجاوز 36 في المائة)، وعقد من الأزمة ارتفاع مستويات الإيجارات بأكثر من أربعة أضعاف مستوياتها في مطلع الفترة، ليزداد استقطاعها من الأجور الشهرية الثابتة أعلى من 50 في المائة منها، زائدا تحملهم فاتورة التضخم وأقساط الديون البنكية المتراكمة. ولم تظل تلك التحديات وحيدة؛ بل أضيف إليها زيادة أعداد العاطلين عن العمل مع زيادة مخرجات التعليم العام والفني والعالي، لتتجاوز أعدادهم سقف 1.6 مليون عاطل وعاطلة (معدل بطالة 19.3 في المائة لعام 2014)، وهو ما زاد من الأعباء المعيشية على أرباب الأسر التي تعولهم، عدا أن شريحة من أرباب الأُسر قد يكون متقاعدا (يقدر عدد المتقاعدين للعام الجاري بنحو 967 ألف متقاعد)، ويعني ذلك أعباء أكبر مقارنة بأقرانهم على رأس العمل، البالغ عددهم نحو 2.7 مليون موظف في القطاعين الحكومي والخاص، بمتوسط عام للأجور يبلغ نحو (7000 ريال شهريا).
لعل أجزاء كبيرة من صورة التحديات المستقبلية المحتملة قريبا قد اتضحت هنا، إضافة إلى الإمكانات والقدرات المادية المتوافرة، وأن أهم قاعدة يجب العمل بها في ضوء العامين إلى الخمسة أعوام القادمة؛ يجب أن تبنى على ركيزتين رئيستين: (1) حسن إدارة وتوظيف الريال الواحد في باب صرفه الأولى والأمثل، تحت مظلة مرتفعة من الشفافية والحوكمة والكفاءة والمحاسبة. (2) التصدّي الحقيقي والجاد لأي تحدٍ من التحديات التنموية الموضح الجزء الأبرز منها أعلاه، وعدم التفكير بأي شكل من الأشكال في التأجيل أو المماطلة أو التسويف، وإلا فإن عواقبه ستكون وخيمة جدا. وإلى الملتقى في الجزء القادم. والله ولي التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734