الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هذا ما يحدث حاليا، يتم القضاء على المنشآت الصغيرة كل يوم وبطرق مشرعة ومدعومة، سواء ممن يريد ويفصح عن رغبته في القضاء عليها أو ممن يدعي دعمه وتشجيعه لها! الجانب الأول يخص عمليات إعادة الترتيب القطاعية التي تحدث في أكثر من مجال. تبدأ الجهة المسؤولة بمحاولة السيطرة على الفوضى وتدني الجودة وتزايد الأنشطة العشوائية وتعلن محاربتها بعد تفاقم أذاها، ولكنها تستخدم أسهل الأساليب وأقلها فائدة، ذلك الأسلوب الذي يقول: نخرج الصغار من السوق وندعم الكبار ليصبح السوق أكبر وأقوى وأيسر تنظيما – وهي نظرية فاشلة لا يصح تعميمها ولا نشرها خصوصا إذا قامت على أسس تخالف مبادئ التنافسية وعدالة السوق ولا تحسب تكلفتها على المستهلك بعناية.
الجانب الآخر يحدث من الجهات التي تدعي دعم المنشآت الصغيرة ولكن يقتصر دورها على الحضور الإعلامي والتحفيز الذي لا يرافقه عطاء حقيقي فهو لا يدوم على الأرجح إلا فترات الزخم والاحتفال، لا ارتباطات تعاقدية ولا ضمانات تجارية ولوجستية. ليزيد بعد ذلك الإحباط وتصبح النتيجة عكسية. بهذا، نجد أن المنشآت الصغيرة تحبس بين معضلتين مؤثرتين، ناهيك عن قضايا التستر والتمويل والتجزئة وغياب الدعم المقنن والذكي الذي يجعل صورتها المأمولة في نهاية الأمر أقرب للزوال من الازدهار.
شاهدنا خلال السنوات الماضية أكثر من حملة تقوم بها الوزارات وبعض الجهات المسؤولة في غياب منظم السوق التجاري – الربحي وحضور جهة الاختصاص الفني فقط. من ذلك الضغط على المدارس بزيادة المتطلبات التنظيمية التي صرح حولها مسؤولو التربية والتعليم بأن الهدف هو إخراج المدارس الضعيفة من السوق، وهذا هدف في أساسه غير عادل يدفع ثمنه المواطن قبل التاجر. لم يتم الاستثمار في التجارب الموجودة ودعم هذه المدارس أو حتى الخروج بصيغة انتقالية واضحة ومعلنة ومؤقتة تضمن حقوقهم وتراعي سلاسة التغيير لمصلحة الجميع؛ ما حدث في النهاية هو ارتفاع الرسوم الدراسية تبعا لارتفاع التكاليف ومع محدودية السعة – وسوء المباني – فتحت ساحة جديدة لوسطاء البيع ودخل تبعا لذلك عدد كبير من المستثمرين الجدد إلى سوق التعليم بنماذج رأسمالية شجاعة يدفع تكلفتها المواطن ولا تجد من يكبح جماحها أو حتى يضمن للأسر ربط القيمة التي تقدمها بالرسوم التي تطرحها.
تجربة القضاء على المدارس الصغيرة التي لا تزال مستمرة ليست الوحيدة، فشركات سيارات الأجرة تواجه اليوم مصيرا مشابها حيث يعرض عليها الاندماج الإجباري أو الخروج من السوق. خيار الاندماج الذي يناقش منذ سنوات لم ينجح ولا أظنه سينجح، لأن التغيير الأهم يؤجل دوما بحجة “تصحيح الأوضاع”. نحن نتحدث في الحقيقة عن خيار غير مؤثر يقع بديلا لفرصة مهمة ترتفع بها معايير تقديم الخدمات وآليات تفعيل الرقابة على ذلك، وهذا أمر لا يحدث إلا بتشجيع الصغار قبل الكبار، لأنهم الواقع الموجود وبهم تتحقق الاستدامة. انتقال الحصة السوقية بالقوة من صغار المستثمرين إلى كبارهم سيجعل المستهلك في زاوية أضيق ولن يحل مشاكل الزحام والتنقل وبقية الفوضى التي تحدث تبعا لذلك، من يفشل في السيطرة على صغار المستثمرين لن يستطيع السيطرة غدا على كبارهم.
يعتقد البعض أن كثرة المنشآت الصغيرة في قطاع ما تؤدي إلى صعوبة تنظيمه، وهذه في الحقيقة مغالطة كبيرة. نعم هيكل القطاع وتوزيع المنشآت فيه مؤثر في أسلوب تنظيمه، إلا أن الفشل التنظيمي مسؤولية المُنظِّم بالدرجة الأولى، لذا كان من الأولى أن يبدأ الإصلاح بتمكين الجهة التنظيمية وتعزيز قدراتها وأدواتها، خصوصا تلك المرتبطة بالتأثير والقيادة والضبط والتحفيز. أما أن يأتي كل من يفشل في تنظيم قطاع ما ويتجه إلى تفكيكه وإخراج الصغار والضغط عليهم بالاندماج أو الخروج ثم يفتح المجال لدعم الكبار وتقويتهم، فهذا لن يصنع إلا مزيدا من الاختلالات. سيصبح الضعيف أضعف والقوي أقوى، ويدفع ثمن هذا التباين المستهلك، سواء استهلك مشوارا للتنقل أو حصة تعليمية أو مشورة طبية.
نعم، هذا ما يحدث الآن، نحن ندعو الشاب ومنشآته الصغيرة لدخول السوق ونطرد في نفس الوقت المنشأة الصغيرة منه. لم يشرح أحد بوضوح الشكل الصحي الإيجابي للمنشأة الصغيرة التي تستحق التواجد والدعم والتي تساهم في تنويع الدخل وتصنع الوظائف، ولم يشرح أحد أيضا ملامح المنشأة الصغيرة الفوضوية التي تثير العشوائية وتذهب بأموالنا إلى الخارج وتستحق الطرد والإلغاء. أين نجدهم وفي أي المجالات ومن أين يجب أن تكون البداية؟! لا يزال الفرق غير واضح لنا ولا أظنه كذلك حتى لمن ينفذون الحملات والبرامج كل يوم.
نقلا عن الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال