3666 144 055
[email protected]
في المقالة السابقة تحدثت عن طرق “طبخ” القوائم المالية، والتي هي عبارة عن أساليب محاسبية معينة تستخدم من أجل تحسين صورة القوائم المالية أمام الأطراف المعنية، كالمستثمرين والمحللين والدائنين وغيرهم كالجهات التشريعية والرقابية. إضافة إلى ذلك هناك أسباب شخصية تدفع بالمسؤولين في الشركات إلى إظهار نتائج متميزة، كون ذلك له تأثير مباشر على ما يتحصلون عليه من حوافز مالية وأرباح رأسمالية نتيجة ارتفاع أسعار أسهم الشركات التي قد يمتلكون شيئا منها. معظم طرق “طبخ” القوائم المالية نظامية إلى حد كبير، كونها في الغالب لا تنطوي على الكذب والتزييف بشكل مباشر، غير أن رسم الخط بين ما هو نظامي وما هو غير نظامي ليس بالأمر الهين، ولا هو هين التفريق بين التجميلات الخبيثة والتجميلات البريئة. وللأسف لا توجد هناك وسيلة فاعلة ومضمونة للسيطرة على آلية إعداد القوائم المالية وضبطها بشكل يمنع أي تجاوزات ضارة، ولا توجد طرق مؤكدة ومضمونة يمكن من خلالها اكتشاف هذه الألاعيب.
وعلى الرغم من أن القوائم المالية تعد بطرق مهنية متعارف عليها وتحتوي على ضوابط دقيقة ونماذج محددة لنشر البيانات المالية بالشكل الذي يمكّن المتلقي من استيعاب نتائج أداء الشركات بسهولة نسبية ومقارنة ذلك بأداء الشركات الأخرى، إلا أنه في الوقت نفسه تحتوي هذه الطرق المهنية على الكثير من المرونة والحرية في اختيار القيم والأرقام والتقديرات التي في مجملها ممكن أن تؤثر بقوة في حجم ما ينشر من نتائج. إذاً لدينا في الواقع مشكلة كبيرة وهي أن كثيرا من الشركات يمارس جميع أوجه المرونة المتاحة بشكل نظامي إلى حد كبير، فكيف يمكننا فرز الصالح من الطالح، ومتى وكيف نعرف ما إذا كانت المرونة النظامية قد تجاوزت الحدود المعقولة ودخلت في عالم التجاوزات المحاسبية؟ لا يوجد جواب سهل وعملي لمثل هذه التساؤلات، وهناك جدل كبير حول ذلك حتى بعد تطبيق قانون ساربينز أوكسلي (سوكس) الذي صدر في عام 2002 في الولايات المتحدة واحتوى على عدد من الضوابط الجديدة الهادفة إلى تقليص فرص التلاعب بالقوائم المالية وتغليظ العقوبات بحق المخالفين.
صدر قانون سوكس عقب عدد من الفضائح المالية الكبيرة في محاولة لإحداث بعض التغييرات المهمة للسيطرة على عمل المحاسبين والمراجعين والمسؤولين في الشركات. من أبرز مخرجاته إنشاء مجلس مستقل لمراقبة المكاتب المحاسبية التي تقدم خدمات المراجعة للقوائم المالية، وتحديد أطر عملها ومساءلتها ومعاقبتها في حال عدم تطبيقها لمقتضيات القانون، حيث تصل عقوبة المحاسب المخالف إلى السجن 10 سنوات. وتفادياً للوقوع في حالات تضارب المصالح، فإن القانون لا يسمح لمكاتب المراجعة بمزاولة أي أعمال أخرى عدا المراجعة، حيث كانت شركات المراجعة في السابق تقدم خدمات استشارية متنوعة للشركة مما يجعلها تغض النظر أحياناً عن بعض التجاوزات. كما أن كبار المسؤولين في الشركة، كالرئيس التنفيذي والمدير المالي، مسؤولون بشكل شخصي ومباشر عن صحة المعلومات الواردة في القوائم المالية، وعليهم التوقيع على جميع القوائم المالية وتحمل مسؤولية أي خلل فيها. هناك كذلك عقوبات جنائية ضد التلاعب بالبيانات وتحريف السجلات أو إخفائها مع عقوبة تصل إلى السجن 20 عاماً. وللتغلب على المخاوف التي عادة تعتري موظفي الشركة ممن لديهم معلومات عن أي ممارسات خاطئة، فقد ضمن القانون لهؤلاء الموظفين درجة كافية من الحماية وعدم الطرد في حال قيامهم بالإبلاغ. أما الجهة المسؤولة عن تطبيق هذا القانون في الولايات المتحدة والإشراف عليه فهي هيئة الأسواق والأوراق المالية، التي تقابلها لدينا في المملكة هيئة السوق المالية.
وعلى الرغم من جميع هذه الجهود، تظل هناك تجاوزات بين الحين والآخر، وتبقى المسؤولية على المستثمر والمحلل للقيام بما يلزم لمحاولة اكتشاف أي ممارسات مشبوهة والابتعاد عن الشركات التي تمارس مثل هذه التجاوزات. عندما تنمو الذمم المدينة من فصل لآخر بنسب أعلى من نمو الإيرادات، فهذا يدل على أن الشركة تحاول رفع حجم مبيعاتها أو مواصلة نموها بأي طريقة، فقد تكون تساهلت كثيرا في شروط ملاءة المشتري أو أنها تمارس ما يعرف بظاهرة حشو قنوات التسويق، أي الدفع بسلعها وخدماتها في حلوق المشترين حتى وإن لم يكن للمشترين نية في الشراء. من المفترض أن تنمو الحسابات المدينة بنسبة وتناسب مع الإيرادات، فإن ارتفعت المبيعات بنسبة 10 في المائة فمن المفترض أن تنمو الحسابات المدينة بنسبة قريبة من ذلك، إلا إن قامت الشركة بتغيير أسلوب البيع لديها، الأمر الذي يستوجب الانتباه في كل الأحوال.
أما إذا كان لدى الشركة أكثر من شركة تابعة فيجب الانتباه إلى أن بعض الشركات تقوم بتأسيس كيان مستقل كشركة تابعة، تسمى أحياناً شركة أغراض خاصة، الهدف منها إخفاء “عيوب” الشركة الأم، وبالذات المديونية، هذا على الرغم من أن الآلية ذاتها سليمة وتُستخدم لتقليص المخاطر عن الشركة الأم عندما تكون هناك فرصة للدخول في مشاريع عالية المخاطرة. كمثال على استخدام هذه الآلية، قامت إحدى الشركات السعودية قبيل طرح أسهمها للاكتتاب بالتخلص مما لديها من أصول رديئة ونشاطات متعثرة بقذفها في شركة تابعة وإبقاء الشركة الأم بصورة نظيفة تمهيداً لطرحها للاكتتاب العام. وعندما يصل التلاعب إلى درجة حادة، تستخدم مثل هذه الشركات الخاصة لإخفاء أوجه القصور والتعثر عن الشركة الأم، وتكون مرتعا لجميع أصناف الممارسات الخاطئة.
من طرق اكتشاف التلاعب ينظر إلى حركة التدفقات النقدية ومقارنتها بالأرباح التشغيلية، لأنه في نهاية الأمر لا بد أن يكون هناك تدفق نقدي من أعمال الشركة مساو لما ينشر من أرباح، ومن المفترض أن لا يستمر التباين لفترة طويلة. الفكرة هنا أن ما تتحصل عليه الشركة من إيرادات لا بد أن يظهر عاجلاً أم آجلاً بشكل نقدي، بعد أن يتم خصم جميع المصروفات النقدية منه، غير أن ما يحصل أحياناً أن تنشر الشركة أرباحا تشغيلية متواصلة لعدة فصول بينما هناك تدفقات نقدية تشغيلية سلبية أو متراجعة. كذلك يجب الانتباه من الشركات التي تكثر فيها المخصصات والاستقطاعات والتكاليف غير التشغيلية، لأنها عادة تستخدم كوسيلة للتخلص الهادئ من تجاوزات تمت في وقت سابق. علاوة على ذلك، تقوم بعض الشركات غير النزيهة بالمبالغة في قيمة بعض أصولها بما في ذلك قيمة المخزون، وذلك بهدف تحسين قائمة المركز المالي وخفض المصروفات المؤثرة على الربحية. على سبيل المثال، رفع قيمة المخزون يرفع من حجم أصول الشركة، وفي الوقت نفسه يخفض من تكلفة البضاعة المبيعة، فترتفع الأرباح.
ختاماً، قضية التلاعب بالقوائم المالية حقيقة واقعة، تضيع معالمها بين الممارسات المعقولة والضرورية أحيانا، وبين ما هو مضلل وكاذب، وليس في اليد من حلول غير مطالبة هيئة السوق المالية بوضع ضوابط صارمة، مشابهة لما يعمل به دوليا، والتأكيد على أهمية المراجعة الداخلية والاستقلالية الكاملة للمراجع الخارجي، إلى جانب التطبيق الدقيق لإجراءات حوكمة الشركات وتغليظ العقوبات بحق المخالفين. ثم علينا كمستثمرين ومحللين القيام ببعض الطرق الاستقصائية لاكتشاف علامات التحذير والابتعاد عن الشركات ذات الممارسات المشبوهة، ومن جهة أخرى ممارسة الضغط الإعلامي على تلك الشركات.
نقلا عن الاقتصادية
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734