3666 144 055
[email protected]
إعفاء وزير الإسكان الدكتور شويش الضويحي أعادني لقضية الإسكان مرة أخرى فقد قررت شخصيا عدم الخوض في هذا الموضوع لأني وصلت مرحلة اليأس من أن تحقق وزارة الإسكان في المملكة نتيجة، وقد أعلنت هذا الرأي في مقالات متعددة خلال الأعوام الفائتة في هذه الصحيفة لأن الكتاب كان واضحا من عنوانه فقد أتحفتنا وزارة الإسكان بسياسات متعددة وأفكار غريبة لحل مشكلة الإسكان مع أنها الوزارة الوحيدة التي أعطيت موازنة تقدر ب 250 مليار ريال ودعمت بقرارات ملكية مفتوحة لكن دون جدوى. ما أقوله هنا ليس تشفيا في الدكتور الضويحي، بل هو نوع من التحذير لكل من يتولى مهمة هذه الوزارة “الوعرة” لأن الدخول في دهاليزها يصطدم بالناس وثقافتهم وهمومهم اليومية كما أن ممراتها وطرقها تتقاطع مع الأمن الوطني الاجتماعي والاستقرار العام والتنمية المحلية والتطور الحضري. هذه الوزارة تبدو ذات مهمة بسيطة فهي تقدم مساكن للمواطنين بينما هي في حقيقة الأمر تتقاطع مع القضايا الكبرى التي تهم الوطن وتؤثر في كل محركاته التنموية والأمنية.
بالنسبة لي لا أعتقد أن وزارة الاسكان لا تستطيع العمل من الرياض، يجب أن تكون متواجدة على المستوى المحلي، ورغم أنني أرى أهمية أن تكون هناك إستراتيجية وطنية للإسكان لكنني مؤمن بشكل كامل أن نجاح العمل في مجال الإسكان الحكومي أن تكون هناك خطط تنفيذية على المستوى المحلي وليس الوطني. أي أنني أرى أنه من الضرورة بمكان أن يكون هناك “مركز إسكان” في كل منطقة من مناطق المملكة يعمل على المستوى المحلي “كمرصد” إسكاني يحدد الجوانب الثقافية والاقتصادية للأسرة السعودية ويتلمس الاحتياجات الفعلية للسكن ويتعامل مع المحتاجين مباشرة ومن ثم يبدأ في التعامل مع هذه الاحتياجات بشكل مباشر. ما أثارني في استراتيجية وزارة الاسكان هو أن الوزارة عملت على تطوير نموذج سكني واحد للأسرة السعودية في كل مناطق المملكة دون مراعاة للفروقات الثقافية المحلية وهذا بداية الفشل لأي مشروع سكني.
واحدة من القضايا التي يحذر منها الخبراء في مجال الاسكان هو تجميع ذوي الدخل المحدود في مشاريع إسكانية، فقد حذروا من ظاهرة “الوشم” أو وصف الحي بأنه حي للفقراء أو لذوي الدخل المحدود، وقد بينا هذا الأمر في مقالات سابقة وحذرنا وزارة الإسكان من هذه الظاهرة الخطيرة وها نحن نحذر منها مرة أخرى، لأن تجميع ذوي الدخول المحدودة في مكان واحد يؤدي إلى الزعزعة الأمنية ويجعل من الحي بؤرة اجتماعية غير مرغوبة وسوف تنمو فيه مع الوقت ظواهر اجتماعية ستجعل من الحي الذي كنا نتوقع أن يحل مشكلة إلى مشكلة اجتماعية وحضرية يصعب حلها. ظاهرة “الوشم” لم تلتفت لها وزارة الإسكان وصرفت مليارات الريالات على مشاريع ستكون نهاياتها سلبية من الناحية الاجتماعية وستزيد من المشاكل الحضرية التي تعاني منها مدننا.
الإشكالية هي في تبني الحلول السهلة وعدم التعلم من الدروس التي مر بها الآخرون، فقد توقفت أغلب حكومات العالم عن تقديم مساكن لمواطنيها بشكل مباشر خصوصا الفقراء منهم، ليس رغبة منها في تكريس الفقر لديهم بل كان هذا جزء من حل مشكلة الفقر. فإذا أتفقنا أن “الفقر” هو ثقافة في حد ذاته فإن تفكيك هذه الثقافة لا يكون بتقديم المساعدات العينية المباشرة بل بالحث على العمل والانتاج وتغيير أسلوب الحياة. يؤكد خبراء الاسكان أن تقديم المساكن مباشرة للأسر الفقيرة غالبا ما يؤدي إلى أن تقوم هذه الأسر ببيع هذه المساكن لحاجتها للمال النقدي ولعدم ملاءمة هذه المساكن لاحتياجاتها إما لبعد مواقعها أو لعدم قدرتها على التفاعل مع المساكن الجديدة، لكن المشكلة أن هذه الأسر لا تستفيد من المال الذي تجنيه من بيع المساكن وغالبا ما تعود لبيئتها الفقيرة، لذلك فغالبا ما ترتبط سياسة الاسكان بسياسة التنمية الاقتصادية للأسر الفقيرة وغالبا ما تقدم المساكن لهذه الأسر بعقود تأجير طويلة قد تنتهي بالتمليك إذا أثبتت الأسر تحولا في نهجها الاجتماعي والاقتصادي. عقود التأجير مجانية كنوع من المعونة السكنية لكنها تخضع للمراجعة السنوية.
هذا الحل قد يبدو معقداً وصعب التنفيذ لكنه مهم في عملية التنمية الاجتماعية وحل مشكلة الفقر، فكما ذكرت الحل السهل بالنسبة للحكومة توزيع المسكن دون صداع ومتابعة لكن هذا لن يقضي على المشكلة. كما أن البعض سيقول ليس كل من يستحق الاسكان الحكومي هم من الفقراء بل كثير منهم من الطبقة الوسطى، وأنا هنا أقول إن سياسة الإقراض (صندوق التنمية العقارية) كان مناسبا وأثبت جدواه، وإذا كانت الأسرة قادرة من الناحية المالية فإن القرض الحكومي الميسر سوف يساهم بشكل كبير في حل مشكلة هؤلاء ويفترض أن نسهل إجراءاته ويمكن أن تقوم الحكومة بتطوير الأراضي الخام التي تملكها في كل مناطق المملكة وتعيد بيعها للمواطنين بأسعار مقبولة تغطي مصاريف التطوير. وهذه السياسة هي التي كان يفترض أن تخطوها وزارة الاسكان فبدلا من تطوير مشاريع إسكان كان يفترض أن تطوّر الأراضي وتبيعها على المواطنين وهذا سيضمن التنوع الثقافي والاقتصادي والتوازن الاجتماعي.
الأفكار كثيرة لكن المشكلة أن وزارة الإسكان لم تحاول أن تفكر خارج أسوار مبنى الوزارة، فضيعت الشهور والسنوات في الاستراتيجيات التي لم تحقق شيئاً على أرض الواقع. طبعا أتمنى أن تنعتق الوزارة من هذا الانغلاق الفكري وأن تفتح أبوابها للأفكار الجديدة وأن تعي أنها وزارة “تنمية وطنية” وليست مؤسسة “إحسان وطني”، وأن همومها ليست “اقتصادية” فقط بل هي “ثقافية” و “اجتماعية” و “حضرية”. وأخيرا أتمنى أن لا أكتب بعد أعوام أن الإسكان وخططه مازال يراوح المربع الأول، فقد توقعت ذلك عندما كانت الوزارة مجرد هيئة ولم أشعر بالتفاؤل عندما أصبحت وزارة وتم تمكينها بالمال والرجال لكني أتمنى أن يحدث تغيير حقيقي هذه المرة فهذا الوطن يستحق الكثير ووزارة الاسكان يمكن أن تساهم في استقراره وتنميته.
نقلا عن الرياض
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734