الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أكاديمي متخصص في المحاسبة
Yasseralnaf@gmail.com
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما أبقيت لأهلك ؟”، قلت: مثله، وأتى أبوبكر بكل ما عنده، فقال له: “ما أبقيت لأهلك ؟” ، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقلت: لا أسابقك على شيء أبدا. رواه الترمذي.
في بادره انسانية راقية انطلق مؤسس شركة مايكروسوفت العريقة و أغنى رجل في العالم لاكثر من سنة السيد بيل جيتس وزوجته في حمله باسم التعهد بالعطاء “The Giving Pledge”.
فكانت البداية من عندهم حين تعهد بيل جيتس وعائلته بالتبرع بنصف ثروتهم الى الجمعية الانسانية التي انشأوا من أجل الاعمال الانسانية حول العالم لينعم الناس بحالة رفاه أفضل فكما يقول هو وزوجته في لقاء متلفز” هناك أناس حول العالم يحتاجون الى مستوى تعليم وصحة افضل”. لكن تلك البادرة لم يقصروها على أنفسهم بل دعوا اثرياء امريكا للعطاء الى المجتمع الامريكي فكما قالوا “المجتمع يستحق ان نرد لهم الجميل” فانظم لهم السيد وارنر بوفيت (المالك لشركة Berkshire Hathaway Stock) الذي يعد من اثرياء العالم متعهدا بالتبرع بـ 99% من ثروته للأعمال الانسانية (التي تقدر حاليا بحوالي 50 مليار دولا) وسرت تلك الحملة حتى دخلها العديد والعديد من اثرياء أمريكا والعالم. فالأمر لم يقف عند أمريكا فكما قال بيل جيتس “بدأنا بأمريكا ولكن نعتقد أن الاثرياء حول العالم ايضا سينظمون لنا لرد الجميل للعالم وسكانه”.
الفكرة رائدة ورائعة ليس دافعها معتقد ديني يُعرف الصدقة والزكاة بأنها نماء للمال وطهرة له كما قال عز من قائل (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) بل كان دافعها انساني بحت من اجل رفاه أعلى للانسان حول العالم. تلك الحملة رغم روعتها الا أنها متهمة بأنها وسيلة للتهرب الضريبي لكون التبرعات الانسانية تعتبر تخفيض لحجم ضرائب الدخل التي يدفعها هؤلاء الاثرياء. لكن العجيب في مقابل ذلك ذكر السيد وارنر بوفيت في لقاء متلفز أنه يشجع على أن يدفع الاثرياء نسب ضريبية أعلى, وتأكيدا لذلك الضرائب نهاية لها طابع اجتماعي إضافة الى ذاك الاقتصادي فهي دخل للحكومة من أجل ماذا؟؟ من أجل تسيير أمور الحكومة ومنها إيجاد مستوى تعليم أفضل، أنظمة أفضل, مستوى صحي أعلى …الخ لذلك يقول وارنر بوفيت في كلا الحالتين أنا اقدم المال ولكني هنا أقدمه بقناعة أن مالدي في حسابات الادخار والاوراق المالية لم أعد بحاجة إليه فأنا عملت كل شيء وحصلت على كل شيء أريده لكني أعلم أن هناك العديد من الناس تحتاج ذلك المال لأنه سوف يغير الكثير بالنسبة لهم.
جمال هذه البادرة ليس فقط في انتشارها (حتى قدر أن حجم التعهدات حتى الآن وصل الى ما يقارب 600 مليار دولار) بل ايضا في القيم التي تعزز فحين يتحدث ثري عمل باجتهاد لسنوات من اجل بناء ثروته بأن المجتمع يستحق ان يرد له الجميل فكأنه يقول المجتمع من أوصلني إلى ما أنا فيه (وان كان البعض يختلف مع هذه النظرة) ومن جانب اخر يضيف احد الاثرياء و يقول العطاء لهؤلاء المحتاجين للصحة والتعليم أشعر انه واجب فأبنائي واحفادي يستحقون أن يأتوا الى بيئة أفضل وعالم أفضل، هذا الشعور المفعم بالانسانية والمسئولية رائع ومتميز.
اليوم من خلال موقع الحملة التي اعلنها بيل جيتس تجد العديد من الاثرياء قد تعهدوا بالتبرع بثرواتهم لنواحي عدة اما جامعات وقطاعات تعليمية او منشآت صحية او أعمال انسانية بشكل عام (وخطابات التعهد تلك تستحق التأمل).
هؤلاء الاثرياء حين يتحدثون يرددون أن هناك فجوة وعدم توازن لتوزيع الثروة خلال المجتمع. وهذا ما تشير له الدراسات الاقتصادية والاحصائيات بان اليوم نسبة لا تجاوز 5% من المجتمع مثلا الامريكي تملك ما يقارب 30-40% من الثروة بأمريكا. فهذا التوازن المختل يجعل تلك الطبقة في حالة مثالية وخيالية بالنسبة للطبقة الدنيا.
هذه المشكلة ليست وليدة اليوم فالقرآن الكريم أشار الى ضرورة حصول الطبقة الدنيا على حقهم لتحقيق التوزيع العادل، فقال سبحانه وتعالي في سورة الحشر(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
فاليوم الثري المسلم حين يدخل الى هذه الحملة المباركة يكون هو في موقف أفضل والسبب أن ما يقدمه مقرون بمعتقد راسخ ودافع أقوى الا وهو الأجر من رب العالمين، فالثري مأمور بزكاة تطهر أمواله، بزكاة هي حق معلوم في ماله وليس فضل، بل ومأمور بصدقة لقريب وغريب تعزز رابطة الاسلام وتحمل العازة عن أخيه المسلم لذا الدافع أكبر والحافز أكبر فالقضية لا يجب أن تكون خصومات واعفاءات ضريبية ولا تجاوزات نظامية بل مسئولية دينية اجتماعية.
فالمجتمع الذي حولك قد يكون ساهم في تكوينك باي شكل كان فكن أنت المبادر. الثري المسلم حين يدخل الى تلك الحملة لا يجب أن يعدها فقط تسويق للذات بتقمص لقيم لا يملكها لأنه يعلم أن الاعمال مناطها النية لذا متى حسنت نيته كان جزاءه اضعاف ما أعطى فالله عز وجل يعطي بغير حساب.
الثري المسلم عليه أن ينبش عن ذاته فكيف تحركت تلك القلوب التي عاشت المادية وتغذتها طيلة مسيرتها قبله، فالمادية لم تمنعها من التفكير بحال غيرها وعازة غيرها، دائما يشار الى أن النفس البشرية تطغى وتزداد حبا للمال كلما اغتنت وهو مصداق قوله عز وجل من هو أعلم وادرى بخلقه في سورة العلق (كلا إن الانسان ليطغى () أن رءاه استغنى)، لكن كيف لأبوبكر أن يتبرع بكل ماله لا يبقي لأهله الا الله ورسوله وهم خير ما أبقى، كيف لعمر أن يتسابق بنصف ماله، كانوا سباقين ليس لاثبات الذات بقدر ما كان إجابة للنداء النبوي ورغبة في الخير. المسلم الثري عليه ان يعيد قراءة المشهد ويبحث عن ذاته عن عقيدته عن ايمانه كيف يستطيع ان يصلح من حال مجتمعه أهله أخوته في الاسلام. فالقرآن يحثه على الانفاق والسنة تحفزه للانفاق ففي الحديث عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) متفق عليه.
وفي احد العبارات المؤثرة يقول الداعية الكويتي الظاهرة عبدالرحمن السميط رحمة الله عليه: لو أن اثرياء العرب أخرجوا الزكاة حق أخراجها ما بقي فقير مسلم. حتى إن كنا نعتقد أنه بالغ سنقول لو أخرجوها حق إخراجها لكان الحال أفضل على الأقل. لا نشكك في ذمم المسلمين الأثرياء ولا نرفع اصبع الاتهام ازاء أحد فالله أعلم بالنيات والأعمال ولكن ما يشهده المجتمع المسلم يحتم رؤية عميقة.
المبادرة رائعة وقيمه في شكلها ومبتغاها ولكنها ميتة حتى تفعل وتصبح واقعا فعليا ولذا كان هناك نقاش بين الثري بوب ويلسون وبيل جيتس حيال العطاء بعد الوفاة او في وقت الحياة حيث يرى بوب ويلسون (الذي أعطى 800 مليون دولار للأعمال الانسانية من غير هذه المبادرة) أن مجرد التعهد في وقت الحياة هو فقط لجعل الاثرياء ينعمون بسمعه حسنة ثم لا يتم التعهد الا من خلال منشآت اسسوها لتقوم بذلك بعد وفاتهم وهذه المنشآت تصبح منشآت بيروقراطية ومأوى للكسالى لا تحل مشكلة الطبقة الدنيا بعمق بقدر ما تشعر الاثرياء بالراحة. فالتعهد كافي حين تكون الآليه حقة وصادقة فقيمة العطاء لا تقع بلا صدق وتحقيق. فعلى هؤلاء الاثرياء كما اكتسبوا الاطراء والثناء على تلك القيم أن يعوا أن يوما من الأيام سينكشف المعدن الحق لتلك الشعارات فالاموال اموالهم والخيار خيارهم لذا ما داموا اختاروا العطاء فليكن عطاء للعطاء وليس عطاءا للأخذ.
خاتمة: يقول الله عز وجل في سورة الحشر (ومن يوق شح نفسه فاؤلئك هم المفلحون) العطاء قيمة عزيزة وليست بيسيرة على النفس البشرية فالانسان كما قال الله عز وجل عنه في سورة المعارج (اذا مسه الخير منوعا) لذا من أجل مسئولية دينية واجتماعية يا اثرياء يا مسلمين تمثلوا العطاء ديانة فبيل جيتس وبوفيت وتيد تورنر وبوب ويلسون وغيرهم من الاثرياء بادروا فكيف بمن قدوته الرسول صلى الله عليه وسلم من كان يعطي بسخاء حتى قال ذلك الرجل لقومه (يا قوم أسلمو فمحمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر). الثروة والسلطة مطغية الا حين يوجد الايمان ويحيى الضمير نسأل الله في هذا الشهر الكريم أن يقينا شح أنفسنا ويجعل العطاء لنا سمة والخير هدفنا الأسمى.
النفيسة
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال