الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تأخر هذا المقال كثيرا، على الرغم من طلب عديد من القراء والأصدقاء أن أكتب فيه، وأوضح المشكلات والأخطاء المحاسبية التي وقعت فيها شركة توشيبا، ومن هو المسؤول مباشرة عما حصل فيها من تلاعب بالقوائم المالية؟ وأيضا ما مسؤولية المراجعين الداخليين والخارجيين عن ذلك؟ وقد وضعته في هذا الأسبوع بالذات؛ لأنني كنت حريصا على طرح قضية الشباب السعودي مع الشركات السعودية قبل أن أطرح مشكلة توشيبا، والسبب أن هناك علاقة ما بين المشكلة التي وقعت فيها توشيبا والمشكلات التي تواجه الشركات السعودية والعاملين فيها خصوصا المساهمة منها. ومشكلة توشيبا تتلخص في أن إدارة توشيبا منذ سبع سنوات كانت تعمل على إخفاء خسائر بلغت قيمتها أكثر من مليار دولار، وقد نتجت هذه الخسائر عن قرارات خاطئة اتخذتها الإدارة قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008 وتسببت تلك القرارات في انكشاف العالم على تلك الأزمة بخسائر جسمية على الشركة، ثم تزايدت الخسائر مع زلزال “فوكوشيما” عام 2011.
السؤال في هذا المقال ليس عن التلاعب المحاسبي الذي قامت به الشركة لإخفاء تلك الخسائر (واعتذر إن خيبت أمل البعض، فهناك عديد من المقالات اليوم تشرح هذا التلاعب بدقة)، لكن المدهش أيضا أن إدارة توشيبا اقترفت 12 حالة ما بين 2009 والسنة المالية 2013. ولم تكن تلك الحالات معقدة محاسبيا (من نوع المحاسبة الإبداعية)، بل مجرد تأجيل سافر للاعتراف بالخسائر، والتلاعب الفج في نسب إنجاز المشاريع من أجل تأجيل الاعتراف بالتكاليف. بمعنى آخر لم يكن تلاعب توشيبا بحجم التلاعب والتآمر الذي حصل في “أولمبوس” أو “إنرون” في الولايات المتحدة، المسألة كانت بسيطة جدا، كبساطة مشكلة “موبايلي” لدينا. لقد تورط في تلاعب شركة توشيبا ثلاثة من الرؤساء التنفيذيين الذين تولوا قيادة توشيبا تباعا، وهذا هو الذي أوجد السؤال الضخم عن مشكلة توشيبا، فهل يعقل أن ثلاثة من الرؤساء التنفيذيين في شركة بحجم وقوة توشيبا يتفقون جميعهم على إخفاء الخسائر طوال هذه المدة الطويلة؟ لقد تعلمنا دائما أن تغيير الرئيس التنفيذي فرصة للشركة من أجل الاعتراف بالفشل وستكون اللائمة على الرئيس السابق، وفي حالات كثيرة في العالم تم اكتشاف التلاعب عندما تم تغيير الرئيس التنفيذي أو اقترب ذلك. لكن في توشيبا تغير الرئيس ثلاث مرات، ومستوى التلاعب بسيط يمكن كشفه، فلماذا صمت الرؤساء الجدد على أخطاء من سبقهم؟ إنها كارثة في عالم الحوكمة ونظم المراقبة الداخلية لم تصب بها من قبل، لم تسجل حالات – في حد علمي – بهذا السوء. لم تكن ميزة قضية توشيبا – كحالة دراسية – في التلاعب المحاسبي فهو متوقع وحصل ويحصل دائما، ـ المشكلة أن نظرية الخطوط الدفاعية الثلاث تكاد تنهار.
نظرية الخطوط الدفاعية الثلاثة تقول، إن أول خط دفاعي هو الفريق الإداري، وهم الذين يصممون النظم الرقابية وتنفيذها، والفريق الثاني هم الذين يشرفون على الحوكمة في الشركة ويضمنون سلامة عمل النظم الرقابة، والفريق الثالث هم المراجعون المستقلون.
لقد أصدرت اللجان المختصة في دراسة مشكلة توشيبا أن الثقافة السائدة في توشيبا هي التي أوجدت هذه المشكلة الخطيرة جدا، فالرئيس التنفيذي الجديد الذي يصبح في الخط الدفاعي الأول يرشحه دائما الرئيس التنفيذي السابق له، والرئيس السابق لا يخرج من الشركة، بل ينتقل إلى الخط الدفاعي الثاني. وهذه قد تكون مشكلة بسيطة لكن في توشيبا كان الأمر مختلفا. فعلى الرئيس التنفيذي الجديد أن يدين بالفضل والولاء للرئيس السابق، كما أن الشركة لا تتخلى عن الرؤساء السابقين، بل يبقون في إدارة الشركة على شكل مستشارين، لهذا لم يكن أي من الرؤساء الجدد الذين تولوا قيادة توشيبا بعد أنظمة 2008 قادرا على الإعلان عن التلاعب؛ لأنه يدين بالولاء للرئيس الذي سبقه، كما أن الرئيس السابق كان هو المستشار والكلمة له فعليا على كل حال. إنها ثقافة الولاء المطلق للأشخاص، التي قادت إلى تساؤلات أكبر فيما بعد حول دور المراجعة الداخلية التي فشلت في التقرير عن هذه الأحداث التي تراكمت، ومرة أخرى تظهر مشكلة الولاء للأشخاص على حساب الشركة.
ما يهمني في هذا المقال – وكما أشرت سابقا – هو تلك العلاقة الشائكة جدا بين موظفي المراجعة الداخلية وقسم الحسابات من جهة، وبين إدارة الشركة من جهة أخرى. حيث أشارت التقارير إلى أن إدارة المراجعة الداخلية ولجنة المراجعة فشلتا في الوصول إلى معلومات من خلال المبلغين عن التلاعب من الموظفين، وبالتحقيق تبين أن الموظفين كانوا يعانون من الثقافة السائدة في اليابان وتوشيبا على الأخص وهي ثقافة الولاء المطلق، لقد كان الخروج من الشركة أشبه بالعصيان المدني، ولم تكن أي شركة ترغب في موظف خرج من عمله، حيث يجب أن يستمر الموظف في شركته ويخضع للولاء لها مهما تعرض له من ضغوط. هذا الوضع الثقافي تم استغلاله ببشاعة في توشيبا. فقد تعرض الموظفون للاضطهاد من خلال نقلهم إلى أسوأ الأعمال إذا لم يستجيبوا لتوجيهات الإدارة، أو أنهم بلغوا المراجعة الداخلية بما يعرفونه من تلاعب وفساد. لقد أشار أحدهم في التحقيقات إلى أنه قد يجد نفسه من محاسب في الشركة إلى عامل يحمل الصناديق في السيارات إذا خالف أوامر مديره المباشر.
لعل هذا هو ما يعاني منه معظم الشباب لدينا، فإذا بدأ بالاعتراض على الشركة وإدارتها وما يدور فيها فإنه سيكون عرضة للنقل من قسمه إلى أسوأ الأقسام عملا في الشركة أو أنه سيتعرض للفصل التعسفي، وإن حصل على تسوية ستكون مجحفة في مقابل حصوله على شهادة خبرة. في اعتقادي أن توشيبا قدمت للعالم تجربة نادرة جدا، وإنذارات خطيرة حول أثر الثقافات السائدة في المنظمات على الفساد المستشري فيها. الولاءات الوهمية، والعلاقات العائلية، والخوف من المدير قد توجد أجواء من العمل صالحة لنشر وانتشار الفساد حتى بين الأجيال المتعاقبة.
نقلا عن الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال