3666 144 055
[email protected]
مستشار قانوني
الإصلاح القضائي أحد المعايير التي يعتمد عليها البنك الدولي في تقييمه لاقتصاديات الدول، لذا فقد خصصَّ فريقاً دائماً يعمل على توليد المعرفة وتقديم المشورة لتحسين مؤسسات النظام القضائي في دول الأعضاء؛ لأن عملية الاصلاح هي مرحلة مستمرة ترتبط بمعالجة مشاكل التنمية التي تتجدد، فعنصر الزمن مفتوح في معادلة التنمية.
وإذا استعرضنا تاريخ الاصلاح القضائي في السعودية نجد أنه يحقق تقدماً ذَا شواهد تاريخية تثبت اهتمام ولاة أمر هذه البلاد المباركة بتعزيز المؤسسات القضائية وتطويرها. إلا أن الملاحظ أن مبادرات التطوير تأتي من خارج السلطة القضائية، في ظل جمود أفرادها عن الخطوات الإصلاحية الاستباقية التي من شأنها الخروج عن عباءة الإرث الفقهي إلى متطلبات الدولة المدنية الحديثة في ظل الثوابت الدينية المكتسبة؛ مما سبّب فراغاً في استحداث «استراتيجية للسلطة القضائية» ذات النظرة الشمولية التي توفر مالاً وجهداً وزمناً.
إنَّ غياب استراتيجية السلطة القضائية أدى إلى انقسام وتشتت مفهوم الاصلاح القضائي في الكيانات الإدارية التي تتولاه. فالقضاء العام يتعامل مع القضاء إجراءاً وموضوعاً وهيكليةً على نحو مختلف عما عليه ديوان المظالم وما ألحق به من قضاء، ويخالف كذلك منهج الجهات التنفيذية التي تشرف على اللجان القضائية، فأصبح النظام القضائي السعودي معزول في كيانات لم تستفد من تداخل الإجراءات فيما بينها، ولم تعمل على رسم سياسة قضائية واضحة المعالم، كما أنها شتت المبادئ القضائية، ناهيك عن الهدر المالي من عدم الاستفادة من التداخل في كثير من الأمور المتشابهة.
يقول غازي القصيبي: «المال لايكفي للإصلاح؛ التخطيط السليم هو المنطق الوحيد للإصلاح»، إن انحسار روح المبادرة بالإصلاح من داخل المؤسسة القضائية تسبب في ضمور عضلات التطوير والإصلاح لديها؛ اتكاء على دور الدولة ودعمها المالي الذي يجب أن يُصرف على تطوير المنظومة القضائية جوهراً ومظهراً. إنَّ تجاوز الملفات الشائكة في الإصلاح القضائي، والاستعاضة عن ذلك بحلول مؤقتة خَلَقَ مشاكل أكبر تحتاج إلى جهد أكبر فيما لو عولجت في وقت مبكر. فإذا كانت مشاكل الأمس هي مشاكل اليوم الأساسية فماذا قدمت مبادرات الإصلاح من حلول حقيقة، وهل مظاهر الإصلاح القضائي قادرة على إعطاء حلول جوهرية أحدث تغييرات في مخرجات الأحكام وتطبيق العدالة الناجزة. جاء في تقرير السفارة الأمريكية عن المناخ الاستثماري والقانوني في السعودية 2014م «وبالرغم من أن الملك عبدالله خصص ميزانية ضخمة لتطوير القضاء إلا أنَّ عدداً محدوداً من التغيرات يمكن ملاحظته».
هناك العديد من خطوات الإصلاح القضائي لا تعتمد على الدعم المالي كأساس للتنفيذ، فمن المجدي أن تكون حاضرةً في مفهوم الإصلاح القضائي المستدام. فأغلب جهود الإصلاح القضائي تُركّز على كيفية احتواء الكم الكبير والمتزايد من القضايا، في حين لم يُتنبه بالشكل المأمل على كيفية تقليل تدفق القضايا على المحاكم. فالجهات الحكومية الأولى بتنفيذ أحكام القضاء القطعية بلا تردد، فلا يحق لأي مسؤول حكومي أن يعترض على تنفيذ حكم القضاء أو أن يناقش شرعيته أو أن يُلجئ المحكوم له إلى قضاء التنفيذ، وفي الوقت نفسه فإن على ديوان عام المراقبة الاضطلاع بمسؤولياته تجاه تلك الجهات الحكومية التي يتعسف بعض إدراييها في قراراتهم الإدارية على نحو ترفض المحكمة الإدارية تلك التصرفات لعدم قانونيتها، والأجدر التحقيق مع من يكرر إصدار قرار إدراي أثبتت المحكمة بطلانه، لأنه سببٌ في شغل القضاء بتصرفاته.
وهذا يقودنا للحديث عن اقتصاديات العدالة، فهل تترك أروقة القضاء لمن يرغب في شغلها إما كيداً بخصمه أو محاولة يائسة مجانية الثمن، مستغلاً الخلل في معادلة اقتصاديات التقاضي في السعودية، ومتكأً على عدم وجود تقادم يحد من زمن سماع المحاكم للدعوى؟ ففي أغلب دول العالم المتقدم يُتَجنّب القضاء كوسيلة لحل المنازعات لكلفته الباهضة التي تشمل أتعاب المحامين، ورسوم الدعوى، وتحمل أتعاب تقاضي الخصم في حال خسارة الدعوى، ومضاعفة مبالغ التعويض بمرور زمن التقاضي.
من جهة أخرى، فإنه لا يمكن مناقشة الإصلاح القضائي بمعزل عن تطوير صناعة المحاماة التي ترفع مستوى الوعي العدلي في المجتمع من حيث إعداد العقود على نحو واضح الالتزامات يترقي بها لدرجة السند التنفيذي، ويقدم الحلول البديلة للتقاضي، ويسدي النصح قبل الإقدام على الأعمال والتصرفات التي من شأنها أن تخلق موقفاً قانونياً يتطلب تدخل القضاء لحسمه. إنَّ المحامي من سدنة بيت العدالة حيث يخدمها قبل المحاكمة وأثنائها وبعدها، وبهذا فإنه يحمل على عاتقه همَّ الاصلاح القضائي.
إنَّ مفهوم الاصلاح القضائي الشامل ليس حِكراً على المؤسسة العدلية، فالجهات الرقابية هي البوابة الأولى التي تشرف على الأعمال والتصرفات التي من شأنها تقليل الدعاوى في المحاكم. فشكاوى المستهلكين يمكن احتواء تطورها بالأنظمة الصارمة على أرباب الأعمال، والرقابة على تنفيذ سياسات حماية المستهلك في جميع القطاعات. كما أن الغرامات الإدراية الثقيلة تجبر أرباب الأعمال على الالتزام بالأنظمة، ومن ثَّم تقل التجاوزات التي تولد القضايا. وهذا يتطلب وضع سياسات حمائية وصلاحيات رقابية من شأنها تقوية سلطة القرار الإداري للجهات الرقابية.
من المؤسف أن تعمل الجامعات والمؤسسات الأكاديمية بمعزل عن هموم الإصلاح القضائي، وبخاصة كليات الشريعة والقضاء والقانون، التي من المفترض أن تكون السباقة لإيجاد الحلول والدراسات التي تسهم في الإصلاح القضائي، وكأن دورها فقط تخريج أفواج يقدمون على الحياة المهنية!، فماذا قدّمت جامعاتنا للقضاء من جهود ملموسة؟ وهل شرعت في كتابة مدونة تحوي الأحكام القضائية تأصيلاً شرعياً وعزواً قضاياً ؟ أو نشرت قاموساً عدلياً شمولياً ؟ أو قدمت رؤية حديثة للإدارة العدلية؟ أو ساهمت في الإعلام العدلي؟ أو المزاوجة بين نظريات الفقه وتطبيقات القضاء؟ أو إنشاء مكتبة عدلية شاملة؟ اترك للقارئ مقارنة جهد الجامعات الغربية بحثاً ومشاريعاً في الإصلاح القضائي مقارنة بحال جامعاتنا، بل اترك لذاكرته أن ترجع لمؤلفات الفقهاء السابقين وكيف ساهمت في تطوير القضاء آنذاك.
إذا أردنا إصلاحاً قضائياً مستداماً فلابد من التضحية بمواجهة معضلة «الهامش التشريعي الافتراضي»، فأنظمة الدولة جزء من حياتها المدنية التي تعتمد فيها على مصادر عدة لا تخرج عما أقرته الشريعة الإسلامية، فالعلاقة بينهما علاقة أصل بفرع، فالدولة المدنية من تطبيقات الاستخلاف في الأرض وعمارتها. ويحفظ التاريخ لسليمان القانوني موقفه الحازم في الإصلاح القضائي حيث جعل رائده الممارسات الرائدة، وخرج عن الجمود على المورث الفقهي وقام بتقسيم المحاكم واقتباس ما عليه التطور الإجرائي في أوروبا وقتها، واستكمل سن التشريعات، وأمر بالبدء في مشروع أظهر للعالم عظمة الفقه الإسلامي، ومدى مرونته العصرية من خلال 1851 مادة قانونية سطرتها المجلة العدلية التي صدرت بمرسوم سلطاني سنة 1869م، وطُبقت في أقاليم الدول الإسلامية في 1876م كأول تقنين مدني حفظ تطبيق الشريعة في أقاليم العالم الإسلامي في مواجهة القوانين الغربية حتى انزوت بقصرها على أحكام الأحوال الشخصية.
إنَّ تقنين الشريعة اليوم هو حفظ لها في الغد، وكما قال العلامة المرداوي «أن الاجتهاد يعطل القضاء»، فلم يعد مقبولاً تفاوت الأقضية وتضارب الأحكام، وليس من تقدير وقت القاضي إشغاله عن التحقيق في وقائع الدعوى بالتحقيق فيما يختار من اجتهادات فقهية ليطبق عليها في حين يقوم قاضي آخر بالاستناد إلى مواد نظامية في حكمه!، إن المؤمل أن يُحزَم أمر التقنين بقيادة الملك سلمان حفظه الله «بعاصفة حزم قضائية»؛ ليشهد القضاء السعودي نقلةً نوعيةً في تاريخ الاصلاح القضائي تحفظ الشريعة للألفية القادمة.
الهبوب
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734