يتعرض الاقتصاد السعودي في هذه الأيام لهجوم مبالغ فيه من قبل بعض المنظمات المالية الدولية، والتجارب السابقة تؤكد أن هذه المنظمات سبق أن حذرت من مخاطر غير واقعية في مسيرة الاقتصاد السعودي، وثبت بالفعل فشل توقعاتها، ولعل السبب الأهم للفشل هو أن هذه المنظمات الدولية لا تميز بين النظرية والتطبيق، فهي تنحاز إلى النظريات، وتراهن عليها، لكن الواقع كثيرا ما أفشل هذه النظريات التي يغيب عنها كثير من الحقائق والمعلومات، يضاف إلى هذا أن كثيرا من المؤسسات المالية الدولية ترهن مواقفها وقراراتها للتسييس والتجاوب مع بعض المواقف السياسية المغرضة، ولا سيما أن من يقود الحملة على المملكة في هذه المرة هو الإعلام الإسرائيلي، وبالذات صحيفة “يديعوت احرونوت” التي وصفت الحالة الاقتصادية بأنها إفلاس للدولة السعودية!
ولكن مع هذا نحن نسلم بأن الاقتصاد السعودي يمر هذه الأيام بأزمة طفيفة بسبب انخفاض أسعار البترول ووصوله تحت 40 دولارا للبرميل، ونعرف جميعا أن الأزمة الاقتصادية تأتي في شكل انخفاض حاد في النشاط الاقتصادي نتيجة أزمة مالية و/ أو سياسية. والدولة التي تعاني أزمة اقتصادية تشهد عادة انخفاضا في الناتج الوطني ونقصا في السيولة وتغيرا في الأسعار إما هبوطا وإما صعودا. وتتخذ الأزمة شكل انكماش أو كساد اقتصادي.
وإذا تفقدنا اقتصادنا الوطني الآن نلاحظ عليه بعض هذه الأعراض بسبب انخفاض أسعار البترول.
وإذا كان صندوق النقد الدولي يطالب الحكومة السعودية بخفض الرواتب ورفع الدعم عن السلع والخدمات، وبالذات عن الطاقة، فإن الصندوق لم يراع البعد السياسي الذي سيحدث تأثيرات سلبية في مسيرة الأداء الاقتصادي، والمؤسف أن الصندوق لديه روشتة جاهزة إلى جميع الحكومات التي تعاني ركودا أو استرخاء اقتصاديا، مقدرا أن هذه الروشتة ستعمل على تنشيط الأداء الاقتصادي.
ولكن في الواقع فإن هذه الروشتة فشلت عمليا في كثير من الدول وأدت إلى نتائج عكسية، وبدل أن يصلح حال اقتصاد الدولة المنفذة للروشتة، فإنه يعرض الدولة لأزمات متلاحقة ذات تكاليف عالية.
ولذلك نستطيع القول، لعلاج الركود الاقتصادي هناك مدرستان، الأولى ترى باستمرار زيادة الإنفاق الحكومي كي يستعيد الاقتصاد نشاطه وقوته، ومدرسة ترى أن خفض الإنفاق الحكومي سبيل إلى إعادة التوازن إلى الاقتصاد المنكمش.
وبالنسبة إلى الحكومة السعودية فإنها تأخذ دائما بمعطيات المدرسة الأولى، أي أنه رغم انخفاض إيرادات البترول إلا أن الحكومة تستمر في الإنفاق على تنفيذ مشاريع التنمية واستكمال البنى التحتية باللجوء إلى الاحتياطي النقدي وطرح بعض السندات، كما سنرى في ميزانية العام المالي المقبل.
ولذلك فإن المؤسسات الاقتصادية في المملكة تواجه الأزمة حاليا بالحرص على استمرار الإنفاق الحكومي وفي الوقت نفسه السيطرة على الدين العام، ولقد عودتنا الحكومة على أنها تستدين من الداخل وليس من الخارج، ويساعد الحكومة على تنفيذ هذه السياسة أن السيولة لدى المصارف المحلية عالية وقادرة على تقديم ما تحتاج إليه الحكومة من اعتمادات مالية، كذلك فقد سجل بند النقد الأجنبي والودائع في الخارج نموا شهريا بزيادة 1.8 في المائة، أي ارتفع من 1.665 مليار في حزيران (يونيو) إلى 9.7 مليار في تموز (يوليو)، ما يؤكد أن الريال السعودي لا يعاني أزمة ويقف على قاعدة صلبة توفر له مزيدا من الاستقرار.
وما نود أن نؤكده هو أن سياسة الدعم سياسة متبعة في كل دول العالم، وهي من السياسات المنشطة وليست المحبطة للاقتصاد.
وإذا عدنا إلى التجارب السابقة نجد أن السعودية نجحت في الخروج من أزماتها واستعادت قوة اقتصادها الوطني من خلال الاستمرار في زيادة معدلات الإنفاق الحكومي، لأن المجتمع السعودي في أمس الحاجة إلى هذه المشاريع حتى يمارس دوره في تحسين أجواء الاقتصاد.
ولذلك نستطيع القول إن المؤسسات المالية الدولية بالغت كعادتها في وصف الأعراض التي يعانيها الاقتصاد السعودي في هذه الأيام، ونعرف جميعا إن اقتصاد السعودية اقتصاد يعتمد على التصدير، خصوصا تصدير النفط الخام، واستيراد جل حاجاته الأخرى من مختلف دول العالم، وأي تغيّر اقتصادي حاد في دول العالم التي ترتبط مع المملكة بعلاقات تجارية واقتصادية سيؤثر في اقتصاد المملكة عن طريق التغير في مستويات الأسعار، لكن أهمها ــ بالنسبة للاقتصاد السعودي ــ هو مستوى أسعار البترول الذي انخفض إلى ما دون 40 دولارا للبرميل نتيجة هبوط الطلب عليه.
لكن التجارب الماضية تؤكد أن الاقتصاد السعودي يتميز بقدرته على استيعاب أسباب الأزمات، فقد أدت الأزمة الآسيوية في عام 1998 إلى كساد اقتصادي، خصوصا في دول جنوب شرقي آسيا التي تعتمد على استيراد البترول من دول الخليج وأهمها المملكة، فنتج عن الكساد الاقتصادي انخفاض حاد في الطلب على البترول، ويومذاك هوت أسعاره إلى مستويات متدنية وصلت إلى نحو عشرة دولارات للبرميل، وأسفر هذا الانخفاض عن أزمة مالية حادة بسبب تراجع الإيرادات البترولية، كذلك هناك أزمة أخرى حدثت في الثمانينيات بسبب انخفاض أسعار البترول ونقص إنتاجه محليا، وتمت المعالجة ــ كما أسلفنا ــ بزيادة الإنفاق الحكومي والاستمرار في تنفيذ برامج التنمية.
وبالمثل فإن الأزمة التي يتعرض لها الاقتصاد السعودي الآن مثلها مثل الأزمات السابقة، جلها تقريبا بسبب انخفاض أسعار البترول، إذن ستمر الأزمة الحالية مثلها مثل غيرها وسيستعيد الاقتصاد السعودي قوته وعافيته، وسيستمر في تحقيق المعدلات المستهدفة من برامج التنمية المستدامة.
ولذلك فإن تهويل الأزمة من قبل بعض المؤسسات المالية العالمية ليس في محله، وهي مبالغات تطلق في الهواء خارج اقتصاد يتميز بأسس راسخة من القوة والمتانة.
إن الاقتصاد السعودي يستمد قوته من الاستقرار السياسي الذي تتميز به المملكة، ومن امتلاكه ربع احتياط العالم، لكن يجب أن يكون من أولويات المؤسسات الاقتصادية السعودية في المرحلة الحالية تطوير آليات جديدة لإيجاد إيرادات حكومية مستدامة تقلل من الآثار السلبية الناتجة عن الاعتماد شبه الكامل على الإيرادات النفطية، ولعل من المهم سرعة وضع آليات تنفيذ ضريبة الأراضي البيضاء على وجه السرعة، حيث إن استيفاء هذه الضريبة في الظروف الراهنة يساعد كثيرا على توفير المال، كما أن بعض الدول لديها تجارب ناجحة في زيادة مواردها الاقتصادية، وحري بنا أن نستفيد من هذه التجارب، وأرجو من حكومتي السنية أن تتجه إلى سياسة خفض النفقات، وإيقاف الهدر المالي وتعمل على استعادة جزء من الأموال المهاجرة التي تستخدم الآن لعلاج أجواء الركود في دول أجنبية.
إن اتخاذ مثل هذه الخطوات بتنويع واستقرار الإيرادات الحكومية يؤدي إلى تحقيق هدف مهم وهو ربط الموازنة الحكومية بالاستراتيجية الشاملة للتنمية، بحيث لا تكون الموازنة عرضة لتجاذبات سلعة واحدة وهي البترول.