الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مستشار قانوني
إذا كان العدلُ أساس الحكم، فالقضاءُ هو بيتُ العدالة وركيزةٌ للحكم والدولة. ولا قضاءَ قويٌّ بدون قضاة أكفاء، فهل لرواتب القضاء أثرٌ في كفاءة مخرجات القضاء؟
يرتبط القاضي بعلاقة تعاقدية مع الدولة لأداء الأعمال الموكلة إليه. وقد اتفق الفقهاء على جواز منح القاضي رزقاً يحقق له ولأسرته حد «الكفاية»، وهو مستوىً أعلى من حد «الكفاف» الذي يقتصر على حصول الفرد على ضَروراتٍ معيشةٍ كحد أدنى. وقد ترجمت هذا المعنى سياسةُ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال «إذا أعطيتم فأغنوا»، حيث «كَتَبَ إلى أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل فى الشام، أن ينظروا رجالاً من أهل العلم من الصالحين من قبلكم فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم في الرزق واكفوهم من مال الله؛ ليكون لهم قوةً وعليهم حجةً». وأكَّد الفقهاء هذا المعنى بأن إكفاء القاضي وأسرته الملزمة منه يحفظ نزاهة القضاء، ولا يجعل له عذر عند مؤاخذته، باعتبار أن القضاء عملٌ فنيٌّ ماديٌّ وليس قربةً أو منسكاً كالصلاة والصيام في ذاته، وأطلقوا على هذا الأجر راتباً.
وفي تطبيقات الدولة المدنية، فإنَّ مرتبات القضاة ترمزُ لمكانة القضاء، حتى إنّ رئيس القضاة في بريطانيا يعلو منصب رئيس الوزراء، ويأتي إدارياً بعد الملكة مباشرة. لذا فإنَّ برامج التطوير القضائي لابد أن تَتَطرق إلى مراجعة لحد «الكفاية»، حيث رفعت ماليزيا رواتب القضاة 40% ضمن برنامجها الإصلاحي، والحال مماثل في سنغافورة التي ربطت زيادة المرتبات برفع مستوى نزاهة القضاء. بل إنَّ معظم الدول الغربية تربط سياسات الأجور لديها بأجر القاضي الذي يجب أنْ يكونَ الأعلى أجراً.
مع بدايات عقد عام 2000م بدأ الحديث عن مراجعة لرواتب القضاة، في ظل تقديرات صندوق النقد الدولي لارتفاع معدلات التضخم في المملكة على نحوٍ استهلكت حد «الكفاية» لرواتب القضاة إلى مستوى قريب من حد «الكفاف»؛ مما نَشأ معه صراعٌ بين سياسات وزارة المالية ورؤية المجلس الأعلى للقضاء الذي اقترح مشروع «لائحة امتيازات وظيفية ومالية».
تختلفُ الدول في قياس سياسات أجور الموظف العمومي من حيث أساس المقارنة، ففي كندا يُعد أجر القطاع الخاص هو الأساس، وعند الدول البرلمانية كاستراليا يعد أجر النائب البرلماني أساساً. وفي المقابل ترى وزارة المالية أن السلم القضائي يُعد من أفضل السلالم مقارنةً بالسلالم الأخرى للدولة، حيث إنِّ خريج الشريعة يستلم قرابة 10.000 آلاف ريال ويستلم غيره 7.000 ريال، لأنها ترى أن فلسفة العدالة الاجتماعية في التعامل مع موظفي الخدمة المدنية لا تُفرق بين شرائح المجتمع من قضاة أو غيرهم من حيث معدلات التضخم، كَمَا أنَّ تقديرات القطاع الخاص خارج معادلة الموظف العام.
إنِّ رواتب القضاة تمُثل رمزاً لما نُكنِّه للعدالة من تقدير، وليس مَا نُقارنهُ بوظيفةٍ أخرى. حيث تكشف بيانات بيوت الخبرة أن مرتب القاضي السعودي يعادل تقريباً 83 ريالاً للساعة، في حين يستلم موظف الهيئات الحكومية الخاضع لنظام العمل ما يعادل 95 ريالاً للساعة، ويستلم موظف الشركات الكبرى قرابة 100 ريال للساعة مضافاً لها المكافأة السنوية. وإذا ما قُورن راتب القاضي بما يتقاضاه المحامي، أو المحكم، أو عضو اللجان القضائية، فإن الفارق يتجاوز 200%. وبالتالي فإنِّ ساعة القاضي أقل مما يستلمه أفراد المهنة العدلية الخاضعين لنظام العمل من موظفي الدولة، أو شركاتها، أو القطاع المهني، -رغم عملهم 8 ساعات يومياً- إذْ يتمعون بحوافز كبدل السكن، والتغطية الطبيّة، وبرامج الإقراض، والادخار، ومكافأة الانتاج وغيرها، مما تتسع معه فجوة المميزات حتى سن التقاعد.
ونتيجةً لارتفاع الأعباء على القضاة، وغياب عناصر الجذب الكافية لبقائهم في وظائفهم، فقد أكدَّ ديوان المظالم أن التسرب من السلك القضائي أصبح ظاهرةً، تستدعي إعادة النظر في سلم رواتب القضاة، في وقت يرى فيه المجلس الأعلى للقضاء أن تسرب القضاة للعمل في مكاتب المحاماة لا يمكن أن يمثل ظاهرة، وإنما يقع تحت كل إنسان واختياراته. إلا أنَّ إحصائية وزارة العدل للمحامين المرخصين تظهر أن القضاة «الجالسين» أصبحوا «واقفين» بنسبة لم تكن معروفة قبل عقد 2000م، وبالرغم من أن عدداً من المحامين يقبل أن يكون عضواً في لجنة قضائية، إلاَّ أنَّ من النادر أن تجد محامياً يقبل بأن يكون قاضياً كما في بعض الدول؛ مما يدل على عمق الفجوة.
إنِّ استبقاء الموظفين «Employee Retention» تعني: قدرة المنظمة على الاحتفاظ بموظفيها، وتدفعها لإعمال كل الحلول الممكنة لتقليل معدل دوران الموظفين، وبالتالي خفض تكاليف التدريب، وتكاليف التوظيف وفقدان المواهب، والمعرفة التنظيمية. وهذا ما دَفَع َوزارة الصحة إلى ابتكار برنامج «التشغيل الذاتي» حيث يبدأ راتب الطبيب من 15.640 ريال، في حين يبدأ راتب الطبيب في سلم الخدمة المدنية 9.200 ريال؛ مما مكنَّها من استقطاب الكفاءات، والحد من استنزاف مواردها البشرية «Attrition». وهذا شجَّع عدداً من الجهات الحكومية «بالالتفاف» على نظام الخدمة المدنية بإنشاء شركات تقوم بتوظيف الكفاءات وإعارتها لتلك الجهات؛ حيث إنِّ ميزات نظام العمل تتيح مرونةً أكبر، وتلبي حاجة الإصلاحات الحديثة.
باستعراض رواتب القضاة في الدول المجاورة يتضح أن ساعة عمل القاضي السعودي غير منافسة إطلاقاً لدول بذات الثقل الاقتصادي ضمن مجموعة العشرين «G20»، في حين حذّر رئيس القضاة البريطاني « Lord Chief Justice» من محاولات خفض راتب القاضي لما يحدثه من معنويات منخفضة نظراً لجسامة المسؤوليات وعدم تناسبها مع المرتبات مما يؤثر على جودة القضاء. وأضاف أن ذلك يُحجم كبار المحامين بأن يصبحوا قضاةً، لاتساع فجوة الأجور بين كبار المحامين والقضاة. يُذكر بأن القاضي البريطاني يستلم شهرياً ما يقارب «82.000»ريال.
وقد أعدّت مؤسسة الملك خالد الخيرية دراسة بعنوان «خط الكفاية في المملكة العربية السعودية» لتحديد التكلفة الخاصة بالاحتياجات الأساسية للأسر في السعودية معتمدةً بذلك على مصادقةِ بيت خبرة عالمي، وأظهرت أنَّ خط الكفاية يبلغ «8.926.10» ريالاً أي بفارق «1.393.9» ريالاً عمَّا يتقاضاه القاضي السعودي!
إنَّ تدني الأجور كان أحد الأسباب التي تدفع عدداً من القضاة للحصول على درجة الدكتوراه؛ وأبرز الأسباب التي تجعل القاضي يفكّر مراراً في تقديم استقالته، فالقاضي النزيه يُواجِهُ «محتسباً» ضغوط متطلبات الحياة، في ظل تعففه عن البحث عن وسائل أخرى تُعزز حصوله على مسكن مناسب، ومركب ملائم، وعلاج يعف به نفسه عن سؤال أحدهم للحصول على خدمة ملائمة في مستشفيات الدولة.
إنَّ تبني المجلس الأعلى للقضاء «إنشاء شركة ينقل إليها كادر قضاة القضاء العام، والقضاء الإداري، وأعضاء اللجان القضائية» لا يقل أهميةً عن مبادرات الإصلاح القضائي. بحيث تتولى الشركة وضع كادر وميزات من شأنها تحقيق الكفاية التي تليق برجال العدالة، وتوفر التدريب المطلوب لهم، وترتقي بأسلوب مؤشرات الأداء «KPIs» ومعايير التفتيش القضائي «Judicial Auditing». فهناك علاقة وثيقة بين عدالة الأجور مع استراتيجية المرفق العدلي، فالتحسين فيها يؤدي إلى تحسين مستوى أداء منسوبي القضاء، لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للمرفق العدلي.
ومن شأن هذه المبادرة أنْ تكشف جلياً عن دور المجلس الأعلى للقضاء ودور وزارة العدل، حيث يُشرف المجلس على شركة تتولى إدارة الموارد البشرية القضائية، ويضع السياسات الإجرائية للعمل العدلي، في حين تشرف على المؤسسات العدلية كالمحاكم التي تدار عبر «مجلس إدارة» يدير الخدمات القضائية من استشارات قانونية، وإدارية، وفنية كالقطاع الخاص. وبذلك تُفصل أعمال التشغيل عن الإشراف، ويرتقي مستوى الخدمات المقدمة، وتقل التكلفة على الدولة بالمعنى الشمولي؛ لأنَّ ضريبة وجود عدالة بطيئة ألقت بظلالها على نواحٍ متعددة خلقت تضخمات وهدرٍ ماليٍّ يعطل التنمية.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم « إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». موتُ العلماء يعني فقدهم، فمتى فَقَدَ قضائنا الكفاءات الثقات فإنَّ القضاء سيستهوي غيرهم، وتكون العدالة هي الضحية، فهل تستحق العدالة أن «يُساوم ويماكس» في أجر رجالها؟
الهبوب
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال