الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
على عجلة من أمري، توجهت لأحد المصارف في يوم جميل، شمسه باردة وسماؤه صافية، لأتمكن من صرف شيك بقي في جيبي ردحاً من الزمن. استوقفتني ملصقة كبيرة في وسط صالة اكتظت بالمراجعين، كتب عليها “استفد من وقتك وأنت تنتظر دورك”، وتقدم الآن للحصول على تمويل شخصي متوافق مع أحكام الشريعة! تساءلت: هل فترة الانتظار بالفعل طويلة لدرجة أن المصارف تستغلها لتسويق منتجاتها المالية إلى العملاء؟ دعوت الله ألا يكون الأمر بهذا الشكل، ولكن بعد أن تفحصت رقمي في الانتظار وتبين لي وجود 35 شخصا سبقوني في انتظار الصرافين، دعوت الله أن يخرجني وإياهم بأسرع وقت ممكن.
وأنا على كرسي الانتظار ألقيت نظرات سريعة على حال المراجعين، فوجدت من أغمض عينيه في غفوة مستحقة بعد طول انتظار، وآخر عدل جلسته عدة مرات تفاديا لتنميل الأطراف وآلام العظام، وآخر تجاوز هذه المراحل وبدأ في الشخير المسموع، ظننت لوهلة أنني في رحلة طويلة على متن طائرة عملاقة متجهة لأقاصي الشرق أو الغرب. عاد ذهني مرة أخرى إلى الملصقة الكبيرة وأدركت أن المصرف يعلم أن الانتظار طويل، ووجد أن أفضل ما يمكن تقديمه للعميل الدعوة إلى استغلال فترة الانتظار هذه، لا بكثرة الاستغفار، بل بالتقدم للحصول على قرض شخصي من المصرف.. إقرار صريح من المصرف بطول الانتظار، وحث مبتكر للحصول على قرض، إشكاليتان في وقت واحد.
رجل أمريكي كبير السن كان جالسا أمامي مغمض العينين معظم الوقت، بادرته بالسؤال عن رقمه حين رأيته يفتح عينيه سريعا ليقرأ شاشة الأرقام، فقال إن له هنا أكثر من ساعتين، أقول هذا والله على ما أقول شهيد. لم أكثر الكلام معه، لكن سمعته يقول وهو يغير مكانه للاقتراب من شباك الصرافين “إن مثل هذا الشيء لا يمكن أن يحدث في الولايات المتحدة”. دار بيني وبين اثنين من المراجعين حديث عن سبب هذه الطوابير، وهل من حل لها، وأين دور الجهة المشرفة على أعمال المصارف، تبين لي من النقاش أن الناس مستسلمون للأمر الواقع، فأصبح الانتظار في صالات المصارف جزءا من ثقافة المجتمع السعودي، يقبل به الشخص كما يقبل بازدحام السيارات في شوارع الرياض. ولكن هل بالفعل لا يوجد حل لهذه الحالة البائسة؟ يوجد للأمانة حل جزئي يتطلب من العميل ترك مبلغ كبير من المال في خزنة المصرف يتيح له الانضمام إلى فئة مفضلة من العملاء، خصصت لهم صالة لا تخلو من الطوابير هي الأخرى، لكنها أسرع من صالة عامة العملاء. أين الجهة المشرفة على أعمال المصارف؟
الحقيقة أن مسألة قيام جهة حكومية بالإشراف على أعمال مؤسسات القطاع الخاص من المسائل التي تمت دراستها وتحليلها لسنوات طويلة في سياق نظرية التنظيم في الاقتصاد، التي من خلالها حاز جورج ستيغلار جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1982، وبالتحديد في دراسته لما تمكن ترجمته “احتواء المنظم”. المقصود بهذا المصطلح أن هناك ظاهرة خطيرة تتجلى عندما تستطيع المؤسسات التجارية الخاضعة لإشراف جهة حكومية من السيطرة التامة على قرارات المنظم، والنجاح في توجيه خططه وسياساته لمصلحتها. هذه الظاهرة ليست بالطبع خاصة بعلاقة مؤسسة النقد مع المصارف فقط، بل إنها قد تحدث مع جميع الجهات الحكومية التي تمارس أدوارا إشرافية أو تشريعية أو تنظيمية لجهات تعمل على أساس ربحي، كالجهات المشرفة على قطاعات الكهرباء والماء والاتصالات والطيران. كيف يمكن لتلك المؤسسات التجارية “احتواء” المنظم وكيف يتم ذلك؟
بحسب هذه النظرية، تمتلك الحكومة الحق الكامل في إصدار التشريعات التي تمس الشأن العام، وتمتلك القوة النظامية للإشراف على الجهات الواقعة تحت مظلة إشرافها. لذا تقوم المؤسسات التجارية ببذل جهود كبيرة للتأثير عفي الجهة المنظمة بعدة طرق وأساليب، تفاديا لإصدار تنظيمات قد تؤثر سلباً في ربحية هذه المؤسسات ومستقبلها. يشير جورج ستيغلار إلى ظاهرة فردية خطيرة تتمثل في قيام المسؤولين من جانب الجهة الحكومية المنظمة بمراعاة مصالح المؤسسات التجارية والوقوع ضحايا لإغراءاتها المتعددة، أحيانا بسبب قيام تلك المؤسسات بمنح مناصب وظيفية لهؤلاء المسؤولين بعد أن ينتهي دورهم كمنظمين، فيكون هناك حافز كبير لهؤلاء المسؤولين بأن يحسنوا علاقاتهم مع المؤسسات الواقعة تحت إشرافهم تحسبا للظروف المستقبلية. وبالطبع هناك حالات الفساد الصريح البواح، غير أني أنأى بالمسؤولين في بلدنا عن مثل هذه الأمور، ولا أزكي على الله أحدا، لذا فلنترك هذه الاحتمالية جانبا. إلا أن النتيجة المفاجئة من دراسات ستيغلار أن المؤسسات التجارية الخاضعة للتنظيم الحكومي تحقق ربحية أعلى من المؤسسات التجارية الأخرى، غير الخاضعة للإشراف والمراقبة الحكومية! هذا يعني أن التنظيم والمراقبة التي تقوم بها الجهة الحكومية قد تأتي بعكس ما هو متوقع منها، فتصبح الجهة الحكومية خير حليف لهذه المؤسسات، شعوريا أو لا شعوريا.
هل الجهات الحكومية الرقابية على وعي تام بمخاطر الوقوع في شراك المؤسسات التجارية الواقعة تحت إشرافها، التي هي بالطبع تسعى إلى تعظيم مصالحها بالشكل الذي تراه مناسبا لها؟ في مثال الطوابير، هل هو أمر عسير على مؤسسة النقد أن تطالب المصارف بمستوى معين لخدمة العملاء؟ على سبيل المثال، إصدار تنظيم يوقع عقوبة على المصارف التي تستغرق مدة الانتظار في صالاتها أكثر من نصف ساعة، ومن ثم قيام المؤسسة بجولات عشوائية لقياس فترة الانتظار؟ ثم من يدفع فاتورة الانتظار؟ أليس في الانتظار إهدار لوقت العميل ومضيعة لوقت العمل؟ وبحكم أن عمل المصارف يتزامن مع أوقات الدوام في القطاعين العام والخاص، فهناك لا شك خسارة مباشرة على تلك الجهات عندما يضيع وقت موظفيها في صالات الانتظار.
هناك من قد يقول إن على العميل تغيير المصرف والبحث عن مصرف آخر خدماته أفضل، ولكن الحقيقة أن المصارف تتشابه في مستوى خدماتها وحدة التنافس بين المصارف ليست قوية كما نجده في بعض الدول، بسبب محدودية عدد المصارف. والحقيقة أن المنظم هو المسؤول عن إصدار تراخيص جديدة لمصارف محلية وأجنبية، وهو من يستطيع ممارسة دوره الإشرافي والتشريعي والرقابي بالشكل الذي يراه مناسبا.
ختاما، بينما تظل طوابير المصارف مشكلة مستعصية، نجد على النقيض جهات خدمية حكومية قضت بشكل شبه كامل على طوابير الانتظار، وأصبح كثير من الخدمات الحكومية في متناول اليد، يتم بيسر وسهولة دون الحاجة إلى مغادرة المنزل. وعلى الرغم من أن المصارف كانت السباقة في تقديم الخدمات الإلكترونية، إلا أنه للأسف هناك خدمات عديدة لا يمكن إتمامها إلا بزيارة شاقة للمصارف.. للمعلومية استغرق مني وقت صرف الشيك ساعة وأربعين دقيقة.
نقلا عن الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال