الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
صدق الإمام الشافعي رحمه الله في قوله: «تأتي المكاره حين تأتي جملة»، فالمآزق لا تأتي فرادى كالجواسيس بل سرايا كالجيش كما يقول شكسبير، وهذا الأمر بات ينطبق تماما على حال استقدام العمالة المنزلية، فقد كشف قبل يومين الدكتور توفيق خوجة، المدير العام للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة الخليجية، عن أسباب كثرة وصول العاملات المنزليات القادمات من الفلبين بأمراض مزمنة ومستعصية في الآونة الأخيرة، وربما -والله أعلم- بأمراض وبائية (وهذه الإضافة افترضتها)، موضحا بأن الفحص الطبي لم يعد من اختصاص المجلس منذ مطلع العام الميلادي الجاري، لأن حكومة الفلبين قررت وقف التعامل مع نظام الربط الإلكتروني للمراكز المعتمدة من قبل السلطات الصحية في المملكة ومجلس التعاون الخليجي، وأن العامل الفلبيني أصبح لديه الحق في اختيار أي مركز صحي لإجراء الفحص.
لا شك أنه تصريح مفاجئ وصادم، فما أوضحه الدكتور خوجة يؤكد أن هذا الوضع مستمر منذ قرابة العام، وقدوم العاملات المنزليات فعليا بهذا الوضع الصحي المزري، وهو أمر يثير عدة تساؤلات، فكيف توافق وزارتا العمل والصحة على قدوم هذه العمالة دون الخضوع للاشتراطات الصحية وفقا لأنظمتنا، وعلى أي أساس تم السماح بوصولها، ولماذا لم يكشف عن أسباب وصول العاملات بهذا الوضع الصحي طيلة الأشهر الماضية؟!
المثير في الأمر، هو أن دولة الفلبين لا تعترض على اشتراطات الفحوصات الطبية التي تفرضها عليها باقي دول العالم عند استقدامها، واكتفت فقط بالتمرد على المراكز الطبية المعتمدة من قبل المكتب الصحي لمكتب وزراء الصحة الخليجي، ونتيجة لهذا الوضع فتح الباب على مصراعيه أمام المراكز الصحية والعمالة للتزوير والتلاعب في التقارير الصحية، وازدادت أعداد العمالة الفلبينية القادمة إلينا بشتى أنواع الأمراض المزمنة، والأدهى والأمر، بحسب ما أكده مدير المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة الخليجية، هو أن هذا الوضع تسبب في عدم إمكانية اتخاذ أي إجراء ضد المراكز الصحية التي تتلاعب وتزور التقارير الصحية، وعدم وجود آلية واضحة تتيح لمكاتب الاستقدام السعودية محاسبة هذه المراكز الصحية، وأن إدارة المكتب التنفيذي كسلطة صحية لم يعد لديهم قاعدة بيانات بعدد العمالة المفحوصة وأين فحصت، بحسب ما أكده الدكتور توفيق خوجة.
ولا أستطيع أن أفهم مما يجري، سوى أن الفلبين استغلت معاناتنا مع ملف استقدام العمالة المنزلية لتفرض شروطها وتتمرد على أنظمتنا للتخلص من فائض العمالة غير اللائقة صحيا للعمل في أي مكان والتي تشكل عبئا اقتصاديا عليها، ومن بينهم مرضى السكري والقلب وضغط الدم وربما العجزة والمسنون والمعاقون وما إلى ذلك، وقد سبق أن رصدت الصحف حالات عديدة قدمت إلى المملكة بهذا الوضع ومن شتى الجنسيات، ولعل منها قصص «مضحكة ومبكية» في آن واحد، مثل قصة المواطن الذي استقدم عاملة منزلية من إحدى الجنسيات الآسيوية عن طريق أحد مكاتب الاستقدام في العاصمة الرياض وصدم عند استقباله لها في المطار بأنها مسنة ومشلولة على كرسي متحرك وبكماء لا تتكلم، وتناقلت وسائل الإعلام المختلفة حينها مقطع فيديو وثق تلك «الورطة»، والأمر المؤسف هو أن الفلبين -على وجه التحديد- تلتزم بالاشتراطات الصحية التي تفرضها عليها دول أخرى في مسألة فحص العمالة مثل الولايات المتحدة وتايوان وبروناي وغيرها.
وخلاصة القول.. قضايا استقدام العمالة المنزلية في مجملها تتفاقم، وتضاءلت فرص الاستقدام مقابل تضاعف مخاطره، وذلك نتيجة لأسباب عديدة يصعب تفنيدها في حيز هذا المقال، فمنها ما هو متعلق بتحسن البدائل والفرص الوظيفية في بعض الدول مثل «بنجلاديش» التي لم نستقدم منها هذا العام سوى 1200 عاملة منزلية لأن العمالة النسائية هناك تتقاضى رواتب في مصانع الملابس في حدود 700 ريال؛ وهو ما يجعل العمل في المملكة غير مشجع، في الوقت الذي يصل فيه الحد الأدنى من الراتب إلى 700 ريال، وهناك أمور أخرى متعلقة بطبيعة الحياة والمجتمع، ومشكلات وقضايا متعلقة بطرق سلبية حول تعامل بعض المواطنين وربات البيوت مع الخادمات، مما فاقم من عزوف العمالة، وأمور أخرى عديدة قد يكون البعض منها متعلق بخلل في إدارة هذا الملف والجهات المسؤولة عنه، وتظل قضية الاستقدام متشعبة وبحاجة إلى طرح كل مشكلة تسببت في معاناتنا مع الاستقدام على حدة.
ولكن يجدر القول، بأن قضية فحص العمالة المنزلية طبيا «خط أحمر» ولا يصح أن تصل عمالة وافدة إلى منافذنا الحدودية دون الرضوخ للاشتراطات الصحية وفقا لأنظمتنا، ووزارة الصحة تدرك تماما أن مرضا فتاكا مثل «كورونا» انتشر عن طريق حالة واحدة أودت تباعا بحياة المئات، فكيف نسمح بأن يقرر العامل فحص نفسه في المكان الذي يريده كيفما يشاء، وكأن ملف العاملات المنزليات الشائك والمليء بالكوارث يحتمل المزيد !
نقلا عن عكاظ
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال