الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
العبارة كما قرأتها فعلا، فهناك تاجر خبير وهناك خبير تاجر وبين التركيبين فارق شاسع نحتاج الى ان نضعه بعين الاعتبار والاهتمام فالتاجر الخبير هو من امتهن التجارة وكان بها خبيرا اما الاتجاه الآخر فهو الخبير في مجاله (سواء المهندس او الطبيب او المحامي او المعلم او المحاسب او الاقتصادي) حين يكون تاجرا (اي جاعلا مهنته تجارة قبل ان تكون مهنة).
نعم كل شيء له مردود فأنا أذكر تماما عبارة لاحد المختصين في التسويق حين قال: لا تعتقد ان هناك تاجرا (او شركة) يبيع بخسارة (في الحالة الطبيعية) حتى وان قدم عروض تخفضيات عالية، فلكل شيء مقابل شعرت به او لم تشعر به. فعلا المهندس والمحلل المالي والخبير الاقتصادي والمستشار القانوني والطبيب الاستشاري والفقيه الشرعي يقدمون آراء واستشارات مهنية تمثل عصارة ما امتلكوا من خبرات علمية اولا ومهنية ثانيا وبكل تأكيد لابد ان يكون لذلك مقابل لكن قد يختلف كل منهم في هذا المقابل. فهناك من يجعل المقابل هو الشعور بالرضا وذلك بتحقيق الامانة والحصول على المقابل من عند الله عز وجل، والآخر يجد ذلك في مقابل مادي يحقق من خلاله الانتفاع الاقتصادي مع ضمانته لحفاظه على مبادئة ومراعاة الامانة امام الله عز وجل وبعض اخر يجد ان المقابل محدود في مقدار المنافع المادية وامكانية مضاعفتها ببيع مزيد من المبادئ المهنية و القواعد الاخلاقية!
لكن مع صروف الزمن وتقلباته عادة ما يواجه السلوك البشري العديد من الضغوطات التي تقلب قائمة الاولويات لديه وقد تكون هذه الضغوطات اخطار محدقة به جعلته يتكأ بإسراف على قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” او هي فرص عظيمة ومزايا يسيل لها اللعاب بها يصبح مبدأ ” المال زينة الحياة الدنيا!” المنهج الواجب الاعتداد به ومراعاته.
لذلك اليوم في كل فن لدينا خبراء بآرائهم نستهدي وعلى تحليلهم نبني ونتوقع واحيانا كثيرة نتخذ قرارا، لكن ماذا لو كان هؤلاء الخبراء يبيعون علينا آراءا تم صياغتها وحبكها لتعظم منافعهم الاقتصادية حتى وان كان ذلك على حسابنا كمجتمع؟ أذكر انني استمعت يوما لرأي احد الاطباء حين ذكر ان الطبيب التاجر اليوم هو الصفة الغالبة فحين تذهب الى المستشفى تخرج منه وانت مثقل بفاتورة كبيرة وعلاجك لم يكن مكلفا لذلك القدر ولكن هناك اجهزة طبية متطورة و كوادر طبية متقدمة تحتاج تكاليفها ان تغطى ويحقق بعدها هامش ربحي عالي لاجله وجد المستشفى أو العيادة اساسا.
وقد ضرب ذلك الطبيب مثالا باستخدام الليزر في العلاج والتجميل ونحوه وقال اليوم اشاهد العديد من اعلانات العلاج بالليزر التي جانبت المهنية!!لم تراعي عدم مناسبة العلاج للجميع فضلت تدفع الجميع الى هذا النوع من العلاج لتغطية تكاليف الاجهزة الخاصة بهذا النوع من العلاج بلا امانة مهنية. ولا يقف الأمر عند الطبيب بل يجري على غيره من الخبراء فمثلا الخبير الاقتصادي احيانا يقاتل من اجل اثبات نظرية معينة هو رغبها ليس لأن الدلالات والمؤشرات الاقتصادية قادته الى ذلك بل لأن القطاع الذي تعلق به مصدر رزقه سيتأثر كثيرا فيما لو أن اجراءا اقتصاديا معينا طبق او حدث، وأقرب القصص “رسوم الأراضي البيضاء” كان هناك فريقا سوداويا بشكل مبالغ فيه للحديث عنها وعن اي حلول تحاول تخفيض اسعار العقارات (مما يضع علامة استفهام كبيرة امام آراء هؤلاء الخبراء التعسفية نوعا ما؟)!!
اعتقد ان الاعلام لدينا سبب هام في تكوين حالة الخبير التاجر، فالاعلام لدينا ليس رقابي ولا يعمل على هذا الدور الا نادرا فهو مقيد واحيانا يحاول تمرير الاهداف التي هو يعدها ويعتقدها وغالبا تكون اهدافا مادية مبناها الاثارة وزيادة المبيعات ومستقرها الربحية على حساب القيم. فمثلا يستضاف فلان من الناس على أنه خبير فيبدأ يوجه الرأي العام نحو وجهة نظر معينة جاعلا منها الحل الوحيد والطريقة الوحيدة والقراءة الوحيدة للمشهد ليست المشكلة فقط في الاختيار ولا في طريقة العرض للرأي بل في ان صفة الخبير باتت لقب لمن لا لقب له. فهذا خبير عقاري واخر خبير في الطب الشعبي واخر خبير مالي فكثر الخبراء حتى جعلوا المشهد اكثر تعقيدا مما يحتمل. مما جعل الخبير الجيد صعب التمييز في ظل تعدد الخبراء التجار.
سيطل علينا في الفترة القادمة مثلا بعد إقرار فرض رسوم الأراضي البيضاء عدد من الخبراء الذين سيقللون من هذا الاجراء ويجعلونه بلا قيمة وسيحاولون الاستشهاد بعدم حدوث التأثر السعري في المراحل الأولى من بداية التطبيق وهذا أمر متوقع فالخبير التاجر لا يؤمن بحيادية الطرح والحديث من المعطيات بل فقط كل ما يقوده هو الربح وكيفية تحقيقه! فيجتزأ المشهد ويعكف الدلالات والمؤشرات والاحصاءات لتعبر عن رأي اختاره مسبقا وحدده سلفا.
انتشار حالة الخبير التاجر هو انتشار للفساد هو تضييع للامانة فأن أدخل أنا وانت الى طبيب يطلب منا 500 ريال رسوم تشخيص لا يدوم اكثر من ربع ساعة فهذه تجارة وليست طب، حين يساعد مستشار قانوني موكليه في خرق القوانين والتلاعب بها هذا نموذج من الاتجار ايضا. حين يقدم خبير اقتصادي ومالي آراء مخالفة للتقارير المالية والمؤشرات الاقتصادية او ان يقدم مؤشرات واحصاءات مغلوطة من الاساس كلها عمليات اتجار.
أيضا المهندس الذي يبرر لحالة القصور في البنية التحتية وغرق المدن لامطار لا تزيد مدتها عن ساعات محدودة مرددا انها اقدار لا يمكن تجنبها بأسباب متاحة هنا اطلاق راي مهني دون دراسة يثير احتمالية الاتجار. كل اخفاق من الخبير في ممارسة الاداء المهني المطلوب يسوق المتلقي الى احتمالات تعارض المصالح أوالقصور المهني والعلمي وكل هذه قرائن اتجار. فتعارض المصالح يعني ان المهنة بمبادئها تقف عائقا امام الربح المادي و القصور المهني او العلمي يدل على ان مبالغ واتعاب تم الحصول عليها دون استحقاق وبالتالي هامش ربحية عالي جدا.
لا أحد يعمل او يقدم شيء بدون مقابل المتبرع يبحث عن المقابل من عند الله عز وجل والعامل يبحث عن الراتب مقابل الجهد البدني او الذهني و التاجر يبحث عن المقابل (الربح) ازاء النشاط الذي يمارس. فالسيناريو مقبول طالما لم يكن المقابل قد طغى على كل القيم الاخلاقية فحتى التاجر الذي هو يسيطر عليه هدف الربحية الشائع بشكل كامل مطالب شرعا بان يتقي الله عز وجل ولا يجعل ذلك ذريعة لغبن الناس واستغلالهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (التجار هم الفجار الا من برَ وصدق) رواه الامام احمد.
مقدار ضغط هدف الربحية عالي جدا وقليل من يقاومه لذا في كل فن اليوم هناك اخلاقيات مهنة مطالب الكثير بالعمل بها ومراعاتها وهي قوانين وضعت لتقيد الشهوات والنزوات البشرية فكيف لو كانت تلك القوانين قيم ذاتية تبنى وتعزز. المال زينة الحياة الدنيا ولا أحد يستطيع مقاومة هذه الزينة الا من امتلك قيم عالية طغت وتجاوزت هدف الربحية ويؤكد على ذلك قول الله عز وجل (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب). فهنا لن يقف احد امام هذه الزينة ومغرياتها الا من امتلك قيمة الايمان بان ما عند الله هو خير وابقى. فهنا يحلل المؤمن ويقارن بين المقابل المادي في الدنيا والمقابل الاخروي الدائم فيرجح دائما عنده المقابل الاخروي.
لذا ليس منطقيا ان نقول للخبير لا تبحث عن المال مقابل ما تقدم من عصارة خبرتك المهنية والعلمية وليس اخلاقيا قول ذلك، لكن المنطقي ان يعي ويفهم ويعتقد الخبير انه ليس تاجرا يزايد في آراءه ليحقق ارباحا طائلة ويقايض بمبادئة واخلاقياته لتحقيق مكاسب عالية.بل هو يحصل على اتعابه بمقدار ما يقدم من مجهود بدني وذهني في إطار القيم التي هو ملزم بها ازاء المجتمع الذي يقدم من خلاله مجهوداته وآراءه وهذا لا يمنع من ان يتقاضى مبالغ عالية طالما انه يقدم اراءا مهنية عميقة لكنها قبل كل ذلك امينة وصادقة.
فالمجتمع وان خدع بصورة وهالة اعلامية الا انه سيكتشف باي وقت زيف تلك الصورة والهالة لذا على الخبير حتى فعلا يستحق الوصف بالخبرة والقدرة ان يعي ابعاد ما يقدم من خبرات واستشارات. وهنا حديثنا عن الخبير الذي يقدم رأيا عاما الى مجتمع لا يكون على اطلاع بخفايا الامور فيكون حجم الاعتماد والاعتداد براي الخبير كبيرا جدا لذا لو ان رأي الخبير لا يجاوزه لما كان هناك حاجة لاستصدار قوانين خاصة باخلاقيات المحترفين والمهنيين لكن لأن المصالح والمنافع الاقتصادية في كثير من الأحيان تتعارض وبشكل صارغ مع ايسر المبادئ الاخلاقية كانت المشاكل الناجمة عن الخبير التاجر كثيرة ومتشعبة وصعبة الحد دون وجود رادع ذاتي قوي ومن ثم رادع قانوني صارم. اما الخبير داخل المنظمة المحدودة المغلقة فامكانية ضبطه والتزامه باهداف المنظمة تكون اسهل وايسر لسهولة المقارنة والمتابعة لمن هو اساسا يعمل لصالحهم.
خاتمة: نعاني من حالة الخبير التاجر في كثير من مناحي حياتنا حتى بات الخبير الامين محل شك وازدراء احيانا كثيرة. فنحتاج ان نعيد ترتيب المشهد ليكون الحالة الشاذة محل الشك وعدم الاحترام هو الخبير الغير الامين. الخبير التاجر إن بر وصدق تجنب الدخول في دائرة “التجار الفجار”!
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال