الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
طلب رضا الناس، وإثارة إعجابهم بالنفس، وطلب الثناء عليها منهم، بات باهظ التكاليف، مع اتساع عدم الحشمة منه، وعدم الخجل من السعي إليه وطلبه، فكل شيء بات لمباهاة الناس، وبات الرياء في الأفعال، والمباهاة بالثروة، والسفر، والهدايا، وحتى الطعام الذي يأكله يباهي به الناس قبل أن يدخل جوفه ويتم نقل صورة عن كل شيء لكل الناس. في سلوك برره بعض علماء النفس الغربيين (بالفقر العاطفي) أو هو تعبير عن خلل في التوازن العاطفي للشخصيات التي يتكون لديها إلحاح وحرص على إطلاع الآخرين على طعامهم و مقتنياتهم المالية ربما هذه الرؤية لا تبتعد كثيرا عن تفسير دوافع الرياء بعقدة الحقارة، والشعور بالدونية، وانخفاض الثقة بالنفس، أو عدم القدرة على الشعور بالثقة بها وأعني بالرياء هنا معناه الأعم الأشمل والأوسع الذي يشمل كل سلوك يبتغي صاحبه به طلب الثناء عليه من الناس ولا يقتصر على صفة الصلاح الديني والاتصاف بالتقوى ومخافة الله.
نبي الله يعقوب قال لأبنائه (يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) وكان هذا قبل انطلاقتهم لمصر لطلب المعونة من حاكمها العادل والمحسن الكبير للفقراء، المفسرون يخبروننا بأن علة هذا الأمر هو خوفه من أن تنالهم عين حاسد ترديهم وتكون أقوى من ردها عن أنفسهم، ولهذا قال بعد وصيته لهم (وما أغني عنكم من الله من شيء، إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) العين والحسد حقيقة ثابتة ترسل الجمل إلى القدر وتبعث المحسود إلى القبر، وفي جميعها لها حكم الأسباب المفضية، والقدر الغالب. فكما أن الجراثيم تصيب الإنسان بالتلوث على اختلاف درجاته، ومع قوتها، يتحول إلى تسمم، والتسمم في قوته يقتل ضحيته قبل أن ينفذ إليه علاج طارد، والأفاعي بعضها يختلف عن بعض في درجة السمية، وسرعة موت الضحية. وفي كتاب الله (ومن شر حاسد إذا حسد) فجعله مما يجب التعوذ منه. وهذا يعني بذل ما في الوسع للبعد عن الإصابة به, والبعد عن أسبابه، والسبل الموصلة إليه. (كل ذي نعمة محسود) وهذه حقيقة يذكرها لنا الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم. ولهذا كان من الغريب جدا، أن يسعى كثيرون لاستجلاب حسد الناس لهم، من خلال نقل الصور والأحوال التي هم عليها والنعم التي هم فيها، وبما ليس متاحا لكل الناس، ولا ينالها كل من يطلبها ويتمناها أو يسعى إليها.
في تاريخ بغداد كان الصاغة تجار الذهب اليهود، يتقاصرون دائما عن أقرانهم من أرباب النعمة، فكان أكثرهم يركب الحمار عوضا عن الخيل الأصيلة التي يتباهى بها من هم أقل منهم مالا وتجارة ومنزلة.. ولم يكن هذا عن بخل أو شدة قبض على المال بقدر ما هو إيمان ثابت أن إثارة حسد الناس يزيل النعمة، ويهدم البدن. وكانوا قلما يردون سائلا دون عطية ولو قلت. طلبا للدعوة التي قد تصادف صدقا فينالون بها حظهم وسعدهم.
اقتصاد الرياء الذي أعنيه هو هذا الكم الهائل من السفه والإسفاف، وجنون التباهي وجنون عرض الذات على الآخرين حتى في وجبات الطعام، وتلك التفاصيل التي تدخل غرف النوم وألوان أغطيته. هذا كله جعل الرياء ومباهاة الناس أكثر بكثير من فص الثوم الذي يشده العباد المزيفون على جباههم ليصبح الصبح عليهم على أثر زائف كأنه من أثر السجود وطوله. ربما لهذا لم يعد كثير منا يشعر بالبركة في كثير من تفاصيل حياته الخاصة التي لم تعد كذلك.
نقلا عن الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال