الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
رئيس تنفيذي لشركة استثمارية – دبي
ahmad_khatib@
منذ عدة أشهر ونحن نتابع التقارير الصادرة من هيئات ومنظمات اقتصادية دولية عن الاقتصاد السعودي معظمها كان مغلفا بالتشاؤم والنظرة المستقبلية السلبية مدفوعة بالهبوط الشديد في أسعار النفط من جهة وتوقع ادارة سعودية تقليدية للظروف المستجدة. بعض التقارير وصل إلى درجة التنبؤ بالإفلاس أو نفاذ السيولة بعد عدة سنوات.
الردود الرسمية طوال الوقت كانت خجولة وركزت على الالتزام بسرد الوقائع والأرقام الأساسية للاقتصاد السعودي. كل ذلك أثار قلقا عند المتابعين وحتى عند الناس العاديين خوفا من أزمة اقتصادية قادمة بشكل غير مسبوق. قلنا في السابق أن التناول الإعلامي للأمور الاقتصادية أيضا زاد من حيرة الناس بسبب انقسام معظمه إلى مشككين ومهولين أو مدافعين بشكل عشوائي، حتى جاء موعد صدور الموازنة باعتبارها الرد الرسمي بالأرقام حول حقيقة الوضع الاقتصادي.
لن أقوم بتحليل الموازنة ماليا في هذا المقال فقد قام بذلك الكثير غيري ولكني أشير إلى أنها احتوت على عدة أمور ايجابية بكونها جاءت أفضل من التوقعات. العجز ونسبته لسنة 2015 كانا أفضل من التقديرات بالإضافة إلى زيادة في الإيرادات غير النفطية والأهم من ذلك عدم تخفيض المصروفات القادمة بنسبة كبيرة. لم يكن هناك توجه للتقشف على الاطلاق وهذا مهم جدا لاستمرار دعم النمو وعدم الاقتراب من الكساد الذي لو حصل ستكون كلفة الخروج منه أكبر.
أظهرت أرقام 2015 أيضا بعض البصمات الاقتصادية الجديدة مثل القدرة على حصر النفقات في الربع الأخير والسيطرة عليها في حدود معينة، وهذا مؤشر مهم لجهة القدرة على المناورة عند الحاجة مع أن الفترة الماضية كانت قصيرة نسبيا.
من وجهة نظري لم تكن الموازنة إلا عناوين للمرحلة المقبلة جاءت لتأكيد العمل الذي بدأ مبكرا خلال العام للتعاطي مع مرحلة اقتصادية جديدة. لا أرى في النظر فقط إلى أرقام الموازنة إنصافا للعمل الجاري في الاقتصاد السعودي على الرغم من أهمية الأرقام التي أشرت إليها. توصيفي للاقتصاد السعودي دائما كان أنه يمر بمرحلة من التحديات وهو يملك الكثير من الأدوات التي تساعد صناع القرار على تجاوز المرحلة القادمة.
الاحتياطيات النقدية ونسبة الدين المنخفضة وقوة القطاع المصرفي واستقرار العملة أمثلة على تلك الأدوات. أما من الناحية الاستراتيجية، فإن سياسة المملكة النفطية كانت أكبر التحديات لأنها كانت من أسباب تراجع أسعار النفط للحفاظ على الحصة السوقية مستقبلا وبالتالي فإن التخلي عن السياسة مرحليا سيكون أثره السلبي مضاعفا في المستقبل.
النتيجة الواضحة حتى الان هي استراتيجية بامتياز ومن شقين. أولا لا تخلي عن سياسة المملكة النفطية وثانيا أن هناك خارطة طريق اقتصادية قد رسمت وبدأ تنفيذها. تلك الخارطة لم تعلن في الموازنة بل ظهرت بوادرها من خلال عدة قرارات سابقة توضح الاتجاه المستقبلي. كما أنني لا أعتقد أن أحدا كان يتوقع أن تظهر معجزات في الموازنة تعاكس ما يحدث على أرض الواقع. في الفترات الصعبة لأي جهة سواء كانت شركة أو مؤسسة أو حكومة، ننظر إلى خطة العمل المستقبلية ثم نبني توقعاتنا عليها وبعد ذلك نقرر أن نتفاءل أو نتشاءم بانتظار النتائج. أي نظرة ترى فقط تراجع الايرادات أو تأثير قرارات مرحلية تكون قاصرة ومحدودة.
لا أختلف أبدا مع من يقول أن المملكة بحاجة لتنويع مصادر دخلها وتطوير بنيتها التحتية والعمل على توظيف العاطلين لكننا اذا ابتعدنا عن الكلام النظري فإننا سنرى تغيرات جذرية في طريقة إدارة الاقتصاد السعودي وهو ما يدعو الى التفاؤل. أغلبية المصطلحات التي تم استخادامها مؤخرا وحتى طريقة التعاطي مع الاستحقاقات الاقتصادية مختلفة وجديدة. لم يسبق ان وصلت درجة الشفافية الى ما رأيناه مؤخرا وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح. تم الاعلان عن برنامج التحول الاقتصادي ومن ثم تمت مناقشته مع الفعاليات الاقتصادية السعودية وهذا أيضا يعني الانفتاح على الاراء والنقاش في أمور تهم جميع المواطنين. لاحظت أيضا الابتعاد عن استخدام لغة تجاهل التغيرات الاقتصادية. لم أسمع مسؤولا يقول أنه لا توجد تحديات أو أن كل شيء على ما يرام ولم أقرأ تصريحات رسمية تلقي باللوم على غيرها فالواقعية ضرورية في مراحل كهذه.
من الناحية التنفيذية لاحظت إعادة هيكلة للإدارة الاقتصادية. في قراءة توجهات المرحلة المستقبلية التي أطلق عليها اسم “السعودية 2020” تمكنت من ربط كل توجه بخطوة تنفيذية خاصة به. عنوان الكفاءة ومراقبة الأداء وضعت له اليات تراقب تنفيذ المشروعات وتتابع الخطط الموضوعة. لن ترتفع الكفاءة بين ليلة وضحاها لكن وضع الاليات يعني أن هناك جدية في معالجة الأداء.
تم في وقت مبكر حل مجالس كثيرة والاستعاضة عنها بما يناسب المرحلة القادمة. صدرت قوانين وتنظيمات لمراكز جديدة تتوافق مع الرؤية والياتها مثل مركز قياس اداء الجهات العامة ومركز الانجاز والتدخل السريع وهيئة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وغيرها بالإضافة إلى قوانين جديدة للشركات والاستثمارات الأجنبية وغير ذلك.
على مستوى التخطيط والرقابة قال وزير المالية أنه سيتم وضع خطط مالية لفترة 3 سنوات للاستعداد المبكر وهو ما لم تتبعه المملكة سابقا حيث كانت تضع موازانات سنوية فقط. تم أيضا الإعلان عن إجراءات تخص التعامل مع الاحتياطيات النقدية وإصدار سندات الدين. ما لا يقل أهمية عن كل ذلك أيضا ما ورد في بيان وزارة المالية بخصوص الخصخصة وإدارة الأصول مما يوحي بأن هناك نية لتفعيل استثمار الأصول وتحقيق عوائد أعلى مستقبلا مما كان يحقق سابقا عن طريق الاستثمار في الأوراق المالية منخفضة المخاطر.
تلعب المملكة دورا اقليميا استراتيجيا لا يمكنها التخلي عنه بسهولة لأنه يهدد أمنها واستقرارها والمحافظة على هذا الدور مكلف ويزيد من الأعباء المالية على خزينة الدولة. ليست المملكة دولة نفطية في أقصى شمال أوروبا مثل النرويج ليمكن النظر الى اقتصادها وسياساتها بمعزل عن محيطها، ولا هي دولة في أقصى شرق اسيا لمقارنة اداءها مع دول صغيرة حققن انجازات اقتصادية.
اذن هناك خارطة طريق اقتصادية وضعت وتم البدء في تنفيذها وهي أخذت في الاعتبار التحديات النفطية والسياسية التي على المملكة مواجهتها. يمكن قراءة العوامل السابقة بشكل شامل ثم وضع نظرة مستقبلية، أو حصر كل الموازنة في قرار رفع أسعار المحروقات.
أنا نظرت إلى الصورة كاملة وأعتقد أنها تدعو إلى التفاؤل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال