أسست الجامعات السعودية شركات للإبداع والابتكار على غرار وادي السيليكون، وقامت بعض المبادرات الوطنية باستيراد الأدوات والبرامج التي تنتشر تقليدا لما يحدث في وادي التقنية المشهور، وبالطبع طُرحت التجارب العالمية للابتكارات التقنية ـــ تلميحا أو تصريحا ـــ كنموذج إبداعي قابل للتطبيق محليا. أتساءل، إذا كانت بعض الجهات المحلية تحاول السعي خلف هذا النموذج ـــ نموذج وادي السيليكون الذي يتم استنساخه عالميا في أكثر من بلد ـــ فهل هناك نجاحات تذكر وهل يستحق الأمر المتابعة؟ وإذا كانت لا تقوم بذلك، فأي نموذج يتم العمل عليه حاليا لترويج الإبداع والابتكار ملئا للفراغات التنموية؟
هناك قليل ممن ينقد وادي السيليكون كنموذج عالمي للإبداع والابتكار ولكن هناك كثير ممن يحاول تبني ممارساته التي لا يمكن بأي حال من الاحوال التأكد من ملاءمتها للبيئات الاقتصادية المختلفة والثقافات المغايرة. ألف إيريك وين كتاب “جغرافية الإبداع” الذي يتناول فيه تجارب الدول والشعوب لتمكين الإبداع والمحافظة عليه. يقول إيريك في مقالة له نشرتها Harvard Business Review إن النموذج الذي قامت عليه نهضة فلورنسا في العصور الوسطى ـــ وقادت النهضة الأوروبية لاحقا ـــ أفضل من نموذج وادي السيليكون، لأسباب أشاطره فيها الرأي وأراها تستحق التوقف، أختصرها كما يلي:
يتطلب الحفاظ على الموهبة قدرا من الإحسان والاحتواء والاهتمام. يضرب إيريك مثلا بالبيئة التي وجد فيها مايكل أنجلو نفسه بعدما حصل على دعم الحاكم لورينزو دي ميديتشي الذي وجده فقيرا معدما. رعاية المواهب خصوصا الموجودة في الظل وتلك التي لا تحظى بحقوقها يشكل أفضل فرص الاستثمارات البشرية على الإطلاق وذلك لاجتماع الحوافز والإمكانات معا. وهذا يعني أن يكون التبني شموليا وقد يغطي حتى أسلوب المعيشة، وأن يستمر كذلك لفترة معقولة تسمح برؤية النتائج. شعور المستفيد بالاحتواء أهم من دعمه في جزئية صغيرة ثم تركه في العراء التجاري ليخرج بفكرته إلى النور. تذكرني هذه النقطة بقصة مخترع سعودي دعمته إحدى جهات دعم الابتكار حتى حصل على تسجيل اختراعه ـــ وساعدته فعليا على الانتقال من الفكرة إلى صنع النموذج التجريبي ـــ ولكنها تركته وحيدا عندما عجز عن التفاهم مع شركات التصنيع لأن نموذج التصميم لم يكن بالمواصفات ننفسها التي يفهمونها. مشكلة بسيطة كهذه لا تدخل في مؤشرات أداء الجهة الداعمة لأنها سجلت إنجازها ـــ بدعم الشاب وتسجيل الاختراع ــــ واحتفلت، فالباقي عندها غير مهم!
لا يفوت إيريك نقد الحالة الإرشادية الحالية في وادي السيليكون ـــ التي تغيب بالكلية عن وضعنا المحلي ـــ ليذكر بالعلاقة الإرشادية المبنية على الثقة التي تستمر لفترات طويلة تضبط رعونة الشباب وتنقل إليهم ما يلزم من حكمة ومعرفة المختصين. هذه العلاقة الإرشادية المميزة كانت الملهم لمفهوم الإرشاد المعاصر الذي يستند إليه قدر كبير من عمليات نقل المعرفة والحكمة إلى الناجحين، بداية من الإغريق ثم الإيطاليين وحتى برامج الإرشاد العصري في الوقت الحاضر. إنعاش المبادرات الإرشادية على المستوى الوطني بتحفيز المرشد والمسترشد أساس في أي بيئة تدعم رواج الابتكارات وتبحث عنها.
تستهلك بيوت الخبرة والشركات الكبرى التي نثق بها جزءا ضخما من فرص التعلم المتاحة لنا. توكل المهام الصعبة دائما للشخص نفسه الذي يكرر ممارساته بنجاح. هذه الطرق تؤدي الغرض المؤقت ـــ أي إنجاز الأمر ـــ ولكنها لا تخدم صنع بيئة ابتكارية تفجر المواهب ولا تفتح الباب لبناء مزيد من الإمكانات ولا تسد الثغرات التي تنشأ بسبب تباطؤ أو تشوه النمو. نظرة صغيرة لفرص المنشآت الصغيرة والمتوسطة أمام كبار المتعاقدين مع الجهات الخاصة والحكومية تشرح لنا الفكرة. تمكين الصغار وتحفيزهم ـــ وربما إجبار – الكبار على التعامل معهم مخاطرة لابد من احتسابها والقيام بها على وجه السرعة.
الخروج من الأزمة لا يكون باستعادة الأمجاد الضائعة وإنما بصنع الجديد منها، ولنا في جهود مدينة ديترويت الفاشلة في الإصلاح بعد أزمة صناعة السيارات عبرة. لا يفوت إيريك تأكيد ما نعرفه وذلك أن الأزمات تصنع الفرص ولكنه يشير إلى أننا دائما ما نحاول تجديد ما فقدناه قبل الأزمة، ولكن الفرص لا ترتبط بالتكرار وإنما بتخصيص الإمكانات المتاحة لأمر جديد بالكلية.
يشدد إيريك كذلك على تقديس المنافسة ودورها التحفيزي العظيم إضافة إلى التفاعل الاجتماعي الإبداعي الذي يمكن من جمع وتجديد الأفكار والأشخاص. مشاهدة الأشخاص أنفسهم ومناقشة الأفكار نفسها يزيدان من رتابة التفكير، ومع تطور الغير من حولنا نشعر بالعجز الذي يتوافق مع تدهور الحالة الإبداعية العامة. نحن لا نحسن صنيعا عندما نسعى خلف “بعض” الملامح التي نختارها من أفضل بيئات الإبداع والابتكار. تحسين أي بيئة يتطلب مزيدا من الشمولية والتنسيق، إضافة إلى تخصيص الجهود لتوائم ثقافتنا وحالتنا الراهنة، وهذا هو الرهان الموجود اليوم أمام الجهات التي تتحمل دور تنسيق وتوجيه الجهود الإبداعية على المستوى الوطني.
نقلا عن الاقتصادية