الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
“الرواتب في القطاع العام، وهي مشكلة عميقة، إذا تم تجاهلها فسوف تتحول إلى مشكلة اقتصادية فعلية وستكون لها تأثيرات كبيرة في المستقبل بحجم التجاهل الذي نقوم به اليوم لمواجهة هذه المسألة وحلها. وفي رأيي أن نبدأ الحل من الآن بإلغاء ودمج بعض الوزارات التي لم تعد تتناسب كليا مع المرحلة الاقتصادية والتحول المطلوب”، هذا النص منقول من مقال لي سابق هنا في “الاقتصادية” بعنوان “هيكلة الوزارات لبناء حوكمة اقتصادية”، ولقد كنت سعيدا جدا وأنا أسمع الأوامر الملكية بتعديل هيكلة عدد من الوزارات، فمن الجميل جدا أن تكتب شيئا وتتنبأ ثم يحدث ما تنبأت به ولو جزئيا، فقد كتبت مقالات عديدة أخرى طالبت فيها بإعادة النظر في وزارة التجارة على وجه الخصوص لأن هناك عددا كبيرا من الهيئات التي تولت اختصاصات الوزارة. لم تكن مطالباتي تلك هجوما على الوزارة كما قد يظن البعض ولا تحديا لأحد، بل كانت نابعة من دراسة للوضع والقضية الاقتصادية السعودية.
إعادة الهيكلة ضرورة جاءت في وقتها، ومع ذلك فلا يمكن الاكتفاء بمجرد حلم تحرير الاقتصاد وبناء مؤسسات صغيرة ومتوسطة تصنع الفارق وتوظف الشباب وتحرك التنمية وتضمن نموا اقتصاديا مستداما ونحن نعرف تماما ما تعنيه الوظيفة الحكومية المرموقة في المجتمع، وسيبقى كل ما نقوله مجرد حلم وردي إذا لم نحرر الشباب من الوظيفة الحكومية. ولا لوم في سعي جيل الأمس واليوم بل حتى الغد للوظيفة الحكومية فهي ذات عائد مغر وساعات عمل محدودة ومسؤولية بالكاد تذكر ومساءلة شبه معدومة إلا من لوم نادر وإنذار أشد ندرة وإذا «غلبت الروم» فقد يأتي نقل تأديبي من الرياض إلى جدة، أو هكذا تسير الأمور. لا يمكن إحداث نقلة نوعية في فكر الأجيال لقبول عمل في منشأة صغيرة، ولو كانت ملكا، وهو يعرف أنه سيبحث عن ألف واسطة (حكومية) لدخول ابنه المدرسة القريبة منه، ألف واسطة من شباب في مثل سنه والفرق بينه وبينهم مجرد مكتب ووظيفة حكومية. لا يمكن إقناع الشاب بامتلاك محل تجاري والعمل فيه ليحصل على صافي ربح شهري (مقدر) بخمسة آلاف ريال وهو يعمل من أول النهار حتى ساعات الليل الأخيرة، ثم يأتي موظف حكومي في مثل سنه تماما له مثل دخله ويعمل حتى منتصف النهار فقط، لا يمكن إحداث نقلة هائلة ونحن لم نقم بهيكلة العلاقة الشائكة بين الاقتصاد والحكومة.
وعلى الرغم من أن القرارات الهيكلية الأخيرة قد أنشأت عددا من الهيئات الجديدة وحررت هيئات أخرى ولعل أبرزها تحرير واستقلال هيئة الزكاة والدخل وهو المطلب القديم الذي أشرت إليه منذ فترات، أقول رغم هذا إلا أنه يجب علينا ألا نرضى بنصف حلم، فالبيروقراطية بقدر ما هي جزء من الحل إلا أنها جزء من المشكلة القديمة، لا يتخلى البيروقراطي عن صلاحياته لمجرد أن هذا في مصلحة السوق، مصلحة البيروقراطي في المميزات التي تمنحه وظيفته فلا يمكن أن يتخلى عن ذلك طوعا. إذا كنا نريد اقتصاد سوق وهيئات مستقلة فيجب أن ترتبط هذه الهيئات وميزانياتها بالسوق وقوة السوق ونموها، يجب أن نحرر المزيد من الوزارات ونحولها إلى هيئات مستقلة مرتبطة بالأسواق التي تنظمها، وحيث لا يوجد سوق ولا قضايا سيادية فلا داعي لأي هيئة أو وزارة. ومع كل خطوة تحرر فإننا سنقترب من حلمنا بالتحول إلى اقتصاد يقوده القطاع الخاص، وستكون الوظائف الحكومية آخر خيارات الشباب.
يجب علينا ألا ننقل أعباء الوزارات ومشاكلها وبيروقراطياتها إلى هيئة، لا نريد أن نسكب ما في قدرنا لوضعه في قدر مثلها، لا بد أن نسارع بضبط رواتب الهيئات المستقلة، ونحدد مساحات عملها، فالاقتصاد شبه الموجه، الذي تبنته المملكة في سنوات وعقود خلت، تلعب فيه الوزارات دورا محوريا فتمنح الترخيص وتمنعه وتشرع الأنظمة التي تؤيد وتدعم توجيهها للاقتصاد، لا نريد تكراره في صورة هيئات بدلا من وزارات، فهذا النموذج لم يعد ملائما لدولة تتجه إلى فتح المجال للاستثمارات الأجنبية وتحقيق عدالة اجتماعية شاملة، وتلغي الدعم على غير مستحقيه، وتبني منشآت صغيرة ومتوسطة تشكل 80 في المائة من الناتج المحلي، فنحن نريد أن تلعب الهيئات دورا أكثر حيادية وأن تجعل قوى السوق تتولى تحقيق هذه العدالة المنشودة، وأن تتولى جهات حكومية أخرى مثل الصندوق السيادي كشريك استثماري يحقق التوازن عندما تختلف قوى العرض والطلب. فمثلا دخول صندوق التقاعد في استثمارات عقارية ذات مخاطر عالية مثل الحي المالي في الرياض قد يهدد الوضع الاجتماعي لعدد من المواطنين، لن يكون الحل بنظم حكومية أو إجبار الوزارات على استئجار هذه العقارات وهي الحلول القديمة التي تمثل الاقتصاد الموجه بل بدخول ذراع استثمارية حكومية مستقلة بقراراتها وتخضع مثل غيرها لقوى السوق وتقوم بشراء هذه العقارات وتستطيع تحمل المخاطر أكثر من صندوق التقاعد. هنا يظهر الدور الرئيس لمثل الصندوق السيادي الذي أعلن عنه وبه يمكن للحكومة أن تلعب دور صانع السوق.
نقلا عن الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال