الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
باحث اقتصادي
AbdullahHabter@
منذ أن بدأ سعر الفائدة يأخذ اتجاها لم يكن معهود من قبل، والمحللين في حيرة من هذه السياسة غير التقليدية التي بدأت بعض البنوك المركزية تتبناها مؤخرا، فعادة تتحرك الفائدة في نطاق إيجابي بحسب الوضع الاقتصادي للدولة، فحينما يكون الاقتصاد يمر بحالة ركود، وبات مكونات الطلب الكلي الاستثماري والعائلي خصوصا تقلص من حجم انفاقها، عندها تبدأ البنوك المركزية في سلسلة من الاجراءات بهدف تنشيط الاقتصاد إذ تعمد لتخفيض سعر الفائدة، والذي بدوره يعطي اشارة للبنوك التجارية بتخفيض هامش الفائدة لديها، وفيما بينها، والتوسع في الاقراض، وهذا بدوره يقلل من تكلفة الائتمان على المستهلكين والمستثمرين، وبالتالي ارتفاع حجم الطلب في الاقتصاد والعودة للنمو.
وفي المقابل حينما يعطي الاقتصاد مؤشرات يعجز معه عن مجاراة الطلب المتزايد على السلع والخدمات والذي ينتج عنه ما يسمى باختلال التوازن بين العرض الكلي والطلب الكلي حينها تأخذ الأسعار اتجاها تصاعديا، نتيجة لتوفر سيولة ضخمة في الاقتصاد، لا يقابلها زيادة في الإنتاج والذي يؤدي لما يُعرف بالتضخم، وهو الارتفاع المفرط في الأسعار، عندها تلجأ البنوك المركزية لرفع معدلات الفائدة للتأثير على إنفاق المستهلكين، مما يؤدي لسحب السيولة من الاقتصاد، والتقليل من الاقراض، وذلك للحد من التضخم.
وما يحدث في الاقتصاد العالمي حاليا من تباطؤ وانخفاض في معدلات النمو خصوصا الدول الصناعية الكبرى نتيجة لانخفاض التضخم دون المستوى الذي تسعى البنوك المركزية للوصول إليه، وهو 2% تقريبا، إضافة للتحدي الذي تواجهه الدول في تعزيز صادراتها وإيجاد مزيدا من الأسواق لمنتجاتها، جعل من سعر الفائدة في ادنى مستوياتها أو ما يسمى بالفائدة الصفرية، ZIRP : Zero interest-rate policy قرار لم يعد ذا فاعلية على المدى المتوسط، مما أدى أن تصبح الفائدة السلبية خيارا جديدا لبعض البنوك المركزية، تسعى من خلاله لبث روح النشاط في اقتصاد يخشى عليه من الركود
وإذا تتبعنا أسباب اللجوء إلى الفائدة السلبية من قبل بعض البنوك المركزية، وجدنا سببين رئيسيين أدى لاتخاذ ذلك الإجراء، هما انخفاض التضخم المستهدف للبنوك المركزية، وارتفاع سعر صرف العملة المحلية أمام العملات الرئيسة، نتيجة عوامل أهمها المضاربات، وهذا الارتفاع أثر سلبا على حجم الصادرات، والذي بدوره يؤدي إلى سلسلة متصلة من الآثار العكسية على الاقتصاد كانخفاض الإنتاج وزيادة في معدلات البطالة.
فقد تبنت كلا من منطقة اليورو والسويد سعر الفائدة السلبي وذلك لتحفيز التضخم والذي كان دون النطاق المستهدف وهو 2% ، بينما لجأت كلا من الدنمارك وسويسرا لذلك للحد من ارتفاع سعر العملة المحلية، في حين أقر البنك المركزي الياباني العمل بالفائدة السلبية للسببين معا، إذ أن انخفاض صادرات اليابان مؤخرا والذي تزامن مع حالة الكساد التي يعانيها الاقتصاد الياباني أدت لقيام البنك المركزي الياباني بتبني هذا الإجراء أملا في التأثير على سعر الصرف وخفض قيمة الين الأمر الذي يصب في مصلحة الصادرات اليابانية، إلا أن الملاحظ أن تطبيق الفائدة السلبية لم يكن ذا فاعلية إذا استمر ارتفاع سعر الين مقابل الدولار وهو عكس ما يسعى إليه واضعي السياسة الاقتصادي اليابانية ، الأمر الذي أدى أن يصرح وزير المالية الياباني بنبرة تهديد إذا تبين وجود مضاربات تهدف لرفع سعر الين الياباني، بل إن الأمر أبعد من ذلك، وهو اللجوء إلى خفض الفائدة مرة أخرى.
وبالنظر للتباين بين قرار تطبيق الفائدة السلبية الذي اتخذته البنوك المركزية السابقة، وفي مقدمتها اليابان مؤخرا، وبين القرار الذي اتخذه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نهاية العام 2015 يجعلنا نتساءل هل سيقدم الاحتياطي الفيدرالي على يبني مثل هذه السياسة مستقبلا، أم أنه سيتخذ قرارا برفع الفائدة قبل نهاية العام الحالي، خصوصا وأن رئيسة الاحتياطي الفيدرالي صرحت أنها لا تستبعد أن يقدم الاحتياطي على تطبيق الفائدة السلبية.
ومن دون شك أن مثل هذا التصريح له آثاره الواضحة على حركة الأسواق، وقرارات المتعاملين فيها، إلا أن تطبيقه مستقبلا خاضعا لبعض العوامل والمؤشرات الاقتصادية والتي من خلالها يمكن توقع اتخاذ مثل هذا القرار من عدمه، وتتمثل هذه العوامل في الآتي:
الأول : سعر صرف الدولار والذي يسعى الاحتياطي في بقاء سعر صرفه في مستواه الحالي أو أدنى منه أمام سلة العملات الرئيسة المكونة لمؤشر الدولار، والذي من شأنه أن يؤدي ارتفاعه إلى ارتفاع سعر السلع الأمريكية، مما ينعكس سلبا على حجم الصادرات، فمع ارتفاع سعر صرف الدولار تصبح السلع الأمريكية أكثر تكلفة على المستوردين، وهذا أمرا بديهي، والعكس صحيح، والملاحظ أن الدولار يتذبذب ما بين 91-99 نقطة، ويعتبر مقبولا نوعا ما في ظل الظروف الحالية التي تمر بها الاقتصاديات المنافسة للاقتصاد الأمريكي.
الثاني : حجم الطلب الداخلي على السلع والخدمات، والذي يؤثر فيه عاملين مهمين إحداهما أسعار النفط والمواد الأولية، والآخر معدلات البطالة وبلا شك أن انخفاض معدلاتها سيصب في مصلحة الاقتصاد، إذ يؤدي ذلك لمزيد من الطلب الداخلي على السلع والخدمات، في حين تمثل ارتفاع أسعار النفط تهديدا للاقتصاد الأمريكي، إذا تزامن ذلك مع ارتفاع سعر صرف الدولار نتيجة لرفع معدل الفائدة، أي أن الفارق بين نسبة تغير سعر البرميل ونسبة تغير مؤشر الدولار الذي يقيس أداء العملة الأمريكية أمام سلة من العملات الرئيسة ليس كبيرا كما ينبغي، وهذا قد يضغط على الاقتصاد الأمريكي من جهتين الأول يتمثل في انخفاض الطلب المحلي نتيجة لارتفاع أسعار النفط، والآخر انخفاض في الصادرات نتيجة لارتفاع سعر صرف الدولار، وبالتالي عودة الاقتصاد إلى الوراء.
وحتى نجيب على التساؤل السابق بخصوص احتمال قيام الفيدرالي الأمريكي تطبيق الفائدة السلبية، ينبغي أن نعرج حول أهم المؤشرات الاقتصادية التي تعطي صورة واضحة عن أداء اقتصاد والمتمثل في حجم الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.
فمن خلال الرسم البياني أدناه والذي يبين حجم الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الأمريكي مقارنة بمثيله للاقتصاد الياباني – وقد تم اختيار اليابان كونها أقرت الفائدة السلبية، وأحد الاقتصاديات المنافسة للاقتصاد الأمريكي – إذ أن الناتج الإجمالي الحقيقي يفترض سنة أساس تحتسب عندها أسعار السلع والخدمات لهذه السنة والسنوات اللاحقة، ومتى كان معدل النمو للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إيجابيا أعطى مؤشرا على وجود نمو حقيقي ناتج عن ارتفاع الطلب، وليس نمو ناتجا عن زيادة الأسعار فقط، وهذا النمو الحقيقي يدل على زيادة التوظف في الاقتصاد، وانخفاض معدلات البطالة، والذي بدوره يكون محفزا للاستثمار، ويلاحظ من الشكل الفجوة بين الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الأمريكي والياباني، مما يعني أن الاقتصاد الأمريكي يحقق معدلات نمو حقيقية أفضل مما يحققه الاقتصاد الياباني.
ومن ذلك نستنتج أنه من خلال أداء مؤشر الدولار المطمئن حاليا، إضافة للنمو الحقيقي للاقتصاد الأمريكي أن التلميح أو التصريح بتطبيق الاحتياطي الفيدرالي للفائدة السلبية لا يعدو كونه خلق مزيد من القلق لدى الأسواق العالمية، وإيجاد مزيدا من الإخفاق للتوقعات والمراهنات التي تراهن على ارتفاع الدولار، وهذا من شأنه التأثير على سلوك المضاربين، والتخفيف من الضغط على العملة الأمريكية، ويبقى تبني الفائدة السلبية خلال الفترة القادمة قائما في حالة أعطى الاقتصاد مؤشرا سلبيا للنمو الحقيقي على المدى القصير، أو بات الاقتصاد العالمي يواجه حربا خفيه من خلال التأثير على سعر صرف العملة المحلية، والتي يطلق عليها “حرب العملات” لحماية صادراتها، إلا أن العصى التي تحمل الجزرة، والتي باتت في يدي الاحتياطي الفيدرالي تمكنه من التلاعب بالاقتصاد العالمي من خلال تبنيه سياسية نقدية متشددة أكثر بطأ خلاف ما يتوقعه المحللون، وكأنه يهدف لجعل الأسواق العالمية تغلي على نار هادئة مسببا قلقا يستولي على قرارات المتعاملين في الأسوق، يجعل مؤشراتها تتذبذب في مستويات متدنية، محققة بذلك مزيدا من الاستقرار للعملة الخضراء.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال