الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
باحث دكتواره في مجال هندسة أنظمة القوى والطاقة – أدنبره البريطانية
في إبريل سنة 1977م ألقى كارتر ما أعتقد أنها أول خطبة في العصر الحديث عن الطاقة سميت “رسالة الطاقة” وذلك بعد ما يعرف بصدمة البترول عام 1973 وهو الوقت الذي حظرت فيه الدول العربية تصدير البترول إلى الدول الغربية الداعمة لإسرائيل في الحرب.
رغم أن الأمريكان كانوا حينها يعرفون قدر الطاقة التي تمد الآلة الأمريكية بالقوة وتدفعهم للأمام ليتصدروا العالم إلا أنه بعد هذا الحدث الذي أربك سير الحياة هناك حصل وقفة تأمل حتى من الأمريكي الذي يرعى البقر، لأنه حين يمشي في الشارع ويرى تكدس السيارات والأشخاص أمام محطات الوقود يعرف أن هناك خلل ما. ومنذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا لا زال الأمريكان يتحدثون عن الطاقة وعن ما يمكن فعله لحفظها أو وجود بدائل أخرى.
إن هذا الحدث أحد أسباب ما يعرف اليوم بالطاقة المتجددة وكل الأبحاث المتعلقة ببدائل النفط، لأن هذه الأمم تبحث عن أمنها في كل مناحي الحياة ومثل الأمن الغذائي والأمن المائي هناك أمن الطاقة. لماذا لا يتحدثون عنها ولا يقلقون بشأنها وهي عصب حضارتهم، وصانعة أمجادهم، بل إنها من أعظم أسباب الرفاهية التي يعيشها الأمريكي اليوم.
تستطيع أن تتخيل معي ماذا حل للأمريكي حينها: الطوابير الطويلة للحصول على جالون من البنزين؟ توقف بعض المصانع جزئياً أو احترازياً؟ توقف بعض الطائرات؟ يمكنك تخيل الكثير من السيناريوهات، ولكن في النهاية أسوء سيناريو يمكنك تخيله لا يمكن أن يكون مثل هذا: اليوم وفي عام 2016 يوجد حول العالم ما يقارب 1.3 مليار شخص يعيشون بدون كهرباء مطلقاً! بالتأكيد يمكنك أن تتخيل هذا في عام 1979 ولكن لا يمكنك أن تتخيل هذا اليوم وأنت الذي أصبحت كل دقيقة من عمرك معتمدة على الكهرباء بشكل أو بآخر.
نحن مقبلون اليوم على مرحلة جديدة مع رؤية السعودية لعام 2030 وأجد أن أحد الأشياء الأساسية التي يجب العمل عليها ضمن الرؤية هو موضوع الترشيد. عندما أفكر في الحديث أو الكتابة عن الطاقة فلا يمكنني أن أبدأ بشيء غير الترشيد ورفع الكفاءة والإستخدام المتزن لجميع المصادر ومنها الطاقة. هذا أول شيء يجب أن نتحدث عنه لأن التحسين يجب أن يبدأ بتحسين الطريقة التي يفكر بها الفرد والسلوك الذي ينتهجه. وعندما أزودك أيها القارئ الكريم بهذه المقدمة البسيطة فأنا أريد أن أضعك في نفس موقف الرئيس كارتر، وهو أننا اليوم في المملكة العربية السعودية نعيش نعمة عظيمة يفتقدها كما ذكرنا آنفا ما يقارب 18% من سكان هذه الأرض وفي نفس الوقت نعاني من هدر واستهلاك عالي تقول الدراسات الحالية أنه في عام 2032 ربما نستهلك كل إنتاجنا أو معظمه في الداخل.
حين خرج كارتر إلى الشعب الأمريكي خاطبهم بصراحة وقال “شعبنا اليوم الأكثر هدراّ للطاقة على وجه هذه الأرض” وأنا أخشى أن يصل بنا الحال أن نكون كذلك. نحن أمام منعطف تاريخي على جميع الصعد سواء السياسي أو الإجتماعي أو الاقتصادي وكلها أنظمة تغذي نظام أكبر وأشمل لذلك يجب أن تسير بوتيرة واحدة متزنة وبكفاءة عالية لأنه حين يختل أحدها يتعثر النظام الكلي وتنهار المنظومة.
المملكة تشهد نمواً سكانياً وطفرة صناعية ومعدل الطلب عالِ جداً يصل إلى 8% وهذا يهدد أحد أهم ثروات البلد كما أنه يهدد أجيال المستقبل إذا كنا نتمنى لهم أن يعيشوا حياة طيبة. استهلاك الأفراد للطاقة بهذا الشكل يجعلنا أمام حقيقة أننا ربما نكون شعباً استهلاكيا بشكل كبير لأي شيء وبأي ثمن، وفي هذه الحالة يكون الضرر أكبر في حين أنه لو تم رفع أسعار الطاقة لن يتغير الإستهلاك وإنما تصبح النتيحة تحول الشعب إلى أصحاب دخول متدنية لأن معظم الدخل سيذهب لتوفير الطاقة سواء الكهرباء أو الوقود.
وهذه المشكلة ممتدة إلى أشياء آخرى في التسوق والمشتريات واستهلاكنا للماء وهو بالمناسبة عال أيضا رغم شح الموارد، والمملكة العربية السعودية تحتل المركز الأول في قطاع تحلية المياه الذي يعتمد أيضاً على الكهرباء. في عام 1996 صدر تقرير البنك الدولي أن نسبة الفرد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من المياه الدولية لا يتجاوز 1% ومنذ ذلك الوقت وهذه النسبة في تضاؤل مستمر.
في نظري أنه مهما بانت ووضحت المشكلة الأساسية أو الكارثة المقبلة كما ذكر كارتر فإن الشعب السعودي على وجه الخصوص ربما لن يكترث كثيراً لأن ثقافته وسلوكه وسماته الشخصية تختلف عن الأمريكي المادي الطباع، وذلك أنه في حين لا يجد السعودي مشكلة بتاتاً في أن يتسلف ليعمل وليمة لأصدقاءه أو ليباشر كل مرة فإن هذا السلوك غير موجود في قاموس الأمريكي وهذا يجعل من مسألة رفع أسعار الطاقة من أجل الترشيد أمر وارد نسبياً ولكن ليس حلاً أبداَ.
الترشيد يبدأ بتغيير ثقافة وسلوك المستهلكين وإذا نجحنا في ذلك في السعودية فإننا لن ننجح في حفظ الطاقة فقط بل حتى أننا سننجح في جعل الأشخاص قادرين على حفظ مواردهم المالية مما يساعد في النهاية على وجود شعب مهتم بكرامته المالية وهي استقلاله مالياً والقدرة على البقاء بعيداً عن الإنخراط في مجال الإستهلاك والديون.
في حقبة كارتر وبالتحديد عام 1979 وبعد الدراسات التي قاموا بها والإجراءات ومطالبة المواطنين في تحسين استخدام الطاقة ورفع كفاءة الأجهزة حصل تغير كبير فعلاً فاستخدام المصانع انخفض بنسبة 6% رغم أن الإنتاجية أصبحت أعلى بـ 12%، وكذلك أرتفعت الكفاءة في القطاع السكني بنسبة 5-10% وقام الناس بوضع العازل في البيوت التي يسكنونها، وانخفضت نسبة النمو في استخدام الكهرباء حوالي النصف من 6% إلى 3%.
لقد نجحت الحكومة في تغيير سلوك المستهلكين وثقافتهم واعتقد أننا الآن أمام مقولة أخرى مشابهة لما ذكره كارتر في نفس الخطاب “نحن يجب أن نوازن حاجتنا للطاقة مع مصادرها التي تنكمش الآن بسرعة، إذا عملنا الآن سنستطيع التحكم في مستقبلنا بدلاً من جعل المستقبل المتحكم فينا!”. ثم قال “ولدينا خيار أن نستمر بنفس الوتيرة والعمل السابق وهذا يجعلنا نستطيع الترنح للأمام قليلاً فقط لبضع سنوات”.
لقد تخطى الأمريكيون الكثير من مسائل العزل والكفاءة منذ ذلك الحدث في حين أننا بدأنا الآن بفرض العزل والنظر في الكفاءة وهنا نشيد بجهود المركز السعودي لكفاءة الطاقة الواضحة ونتمنى استحداث المزيد من البرامج المتعلقة بدراسة السلوك في الأحياء والمدن المختلفة وتقديم الحوافز ورفع الوعي. اليوم أيضاَ طرأت الزيادة من جديد في القطاع السكني والتجاري الأمريكي وتصل إلى ما نسبته 40% من كامل الطاقة المستهلكة وهناك المزيد من الدراسات لتلافي هذا الإرتفاع. مثل هذه الدراسات تساعدنا في أن لا نقع في الأخطاء التي أدت لحدوث هذا عندهم وتلافيها من الآن عندما نخطط للمستقبل.
أحدها مثلاُ في جانب البنى التحتية وهو ما يجب علينا في المملكة أخذه بعين الإعتبار وتصميم المباني بشكل أكثر كفاءة، وعامل آخر هو أنهم وجدوا اليوم أن مناطق العمل أصبحت بعيدة وهذه موجودة لدينا كما أن الشخص الذي يريد أن يراجع بعض الدوائر الحكومية يجد كلاً منها في جهة بعيدة عن الأخرى وهذه كلها على المدى البعيد عوامل استهلاك للطاقة.
كانت أحد أساليب التأثير هي إرسال الفاتورة الشهرية للمستهلك مع إظهار إحصائيات للحي تظهر الـ20% الأكفاء وما هو المتوسط المتوقع لمنزل المستهلك مما يجعل المستهلك يتساءل ما هو الخطأ الذي نفعله ويجعل استهلاكنا أكثر من الآخرين. مؤخراً كانت أغلب الدراسات الحديثة تشير إلى أنه حتى مع وجود التقنيات الجديدة ذات الكفاءة العالية فإنها لن تكون السبب الرئيس في تخفيض الإستهلاك لأنه إذا لم يتغير أسلوب المستهلك وطريقة تفكيره تجاه هذا الشيء فإنه لن يهتم كثيراً بشراء الأكفأ التي تبدو أغلى سعراً في البداية. والحقيقة أن ثقافة الأدوات الكهربائية لدينا في السعودية متدنية جداً جداً وكل ما يهم العميل في الغالب أن يحصل على الأقوى إضاءة مثلا والأرخص وليس الأكفأ بحيث لايهمه أيستهلك الجهاز 100 واط أو يستهلك 20 واطاً.
هذه أحد المشاكل الحقيقة وقد ساعدت في مرور الكثير من الأجهزة الكهربائية متدنية الكفاءة والمغشوشة أيضاَ. ذكرت الغرفة التجارية بجدة أن نسبة السلع المقلدة تصل إلى 80% والطلب أيضاً كبير ويرتفع سنوياً بنسبة 15% على هذه السلع وهذا دليل على وجود خلل وهو أن المستهلك لا يوجد لديه وعي بالمشاكل الكهربائية الخطيرة التي ربما تنتج عن هذه الأدوات ناهيك عن وعيه بضعف كفاءتها وتردي جودتها وغلاء كلفتها في الفاتورة الشهرية.
أشجع حقيقة وجود برامج أو شركات ناشئة تهتم بكفاءة الأدوات الكهربائية في االقطاع السكني والتجاري وهو باختصار أن يكون هناك مثلاً برنامج أو شركة تقوم بأخذ رسوم معينة لدراسة أدواتك الكهربائية ونظامك الكهربائي ومراجعة كفاءتها واستبدالها أو وضع خطة للمستهلك تظهر مدى ما يمكن حفظه من أموال في الفاتورة الشهرية عند تغيير تلك الأجهزة.
في النهاية لا يوجد حل لمشكلة هدر الطاقة أو استخدامها بشكل غير حكيم مثل الترشيد. البعض يقول لنتوجه إلى الطاقة المتجددة ونقول لماذا نتجه إلى الطاقة المتجددة التقنية ذات الكفاءة المتدنية وذات الكلفة العالية والمصدر غير الموثوق وفي نفس الوقت نحن نستطيع أن نخفض الإستهلاك بطرق أرخص من ذلك بكثير. نحتاج إلى إشاعة الوعي وخصوصاً في من خلال التعليم وإعداد النشء ليستشعر قدر هذه النعمة العظيمة، وقد رأيت كيف يمكن أن يصبح الشيء عادة وثقافة فمرة وأنا أدرس البكالوريوس في أمريكا ذهبنا مجموعة طلاب في رحلة عمل صفي وكان من بيننا أجنبي غير أمريكي قذف قنينة الماء بعد شربها فصرخ عليه أمريكيين “أبقِ أمريكا نظيفة!”.
لا غرابة أن نشاهد الطلاب يغادرون فصولهم بل قاعات الجامعات -وهم الطلاب الذين نتوقع منهم أن يكونوا أكثر وعياً- دون أن يكترث أحدهم بإطفاء المصابيح أو أجهزة التكييف. إن توفر الطاقة أحد أسباب الرخاء والنهضة التي نعيشها اليوم، وإنه المستقبل الذي تؤمل عليه الأمم. أيمكن تصور حياة بلا ماء أو كهرباء؟ أطالب المختصين في شركة الكهرباء وفي الجامعات ووزارة التعليم أن يدعموا برامج رفع الوعي واستخدام المرافق وأفنية المدارس والفصول وقاعات الجامعات في ترشيد استهلاك الطاقة من كهرباء ووقود وماء أيضاَ.
كما أنه لا بد أن يقع في أفئدة هذه الأجيال قول الله تعالي “منها خلقناكم وفيها نعيدكم” وهي إشارة سماوية أن الإنسان مربوط ببيئته، ومن أضرار كثرة استهلاك الطاقة تضرر بيئتنا وعليه يلزم الحفاظ عليها لتكون مكانا صالحاً لحياة البشر. إن العمل على هذه المفاهيم وإشاعتها يجعلنا نكسب أجيالاً محافظة على الموارد مدركة قيمة الطاقة ومدارس للقيم والتعليم، كما نكسب دعماً مباشراً يساهم في ازدهار الدولة ونموها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال