الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تُعد سوق المهن أهم أسواق البيع والشراء لأثمن سلعة على وجه الأرض إن صح التعبير. على الرغم من ارتفاع منزلة الإنسان وضمان ترفعه ـــ على الأقل رسميا ـــ عن أي سوق يباع فيها أو يشترى، إلا أن ما يحصل في سوق المهن من عرض وطلب وتبادل للمهارات والقدرات والمنافع أمر حقيقي. حتى أن القائمين على تنظيم هذه الأسواق استخدموا مصطلح “الموارد البشرية” حديثا عن أهم مورد في الوجود الإنساني تدار به المشاريع والأعمال. هو مورد نوعي ينمو وينضب، تكلفة الحصول عليه مرتفعة جدا ولكنها قد تكون ثمنا بخسا.
تعج هذه السوق بالملفات السرية التي يمكننا النظر إليها بأكثر من منظور، فما يراه التاجر ويخفيه طمعا في تحسين معادلات الربح يختلف عما يعرفه السياسي والاقتصادي ومتخذو القرار من معلومات يملكون حرية إخفائها أو إعلانها. وبالطبع تقوم حياة المتخلف والمهرب والسمسار على ملفات سرية مهمة بالنسبة إليه يعقد عليها مصيره. الوحيد الذي تعترض طريقه مجموعة من الملفات السرية – ويجب ألا يواجهها أساسا ــــ هو الباحث عن عمل!
لا يصدق بعض الشباب ـــ ووالدوهم ومعلموهم أيضا ـــ أن دخله الشهري قد يصل إلى ذلك الرقم إذا مشى في هذا الطريق. ولكنه يظهر وكأنه يستمتع حينما يتحدث عن مقيم يقبض عشرات الآلاف شهريا ويبدأ ـــ بعنصرية لا يشعر بها ــــ بإعلان تهمة العنصرية على من وظف ذلك المقيم أثناء حديثه في المجالس والواتس أب. أنا بالطبع لا أنفي وجود عقدة الخواجة عند بعض صانعي القرار غير أن صعوبة استيعاب هذه الفرص من الشاب الذي قد يتمكن من تجاوز ما يحصل عليه المقيم يثير التعجب. عندما يُعرض عليه الحل ووصفة النجاح المحلية المتاحة بلا قيد أو شرط يبدأ في التكذيب اليائس أو في التعذر من بذل الجهد، ليقول: أنا لا أحب الطمع وتكفيني بضعة آلاف شهريا لأن ما تقوله مستحيل؛ أو ربما قال: لأنني سأشغل نفسي بمشروع جانبي بعد الحصول على هذه الوظيفة الخفيفة. ثم يعود من جديد للشكوى والتسخط من حاله المتواضع مقارنة بغيره من المجتهدين.
أنا الحقيقة لا ألوم الشاب الذي يقع في مواجهة مثل هذا المطب، فهناك فعليا عدد كبير من الملفات السرية في سوق المهن المحلية التي يتم التعامل معها وكأنها ذلك السر العظيم بينما هي في الحقيقة مجرد بقايا للجدار العازل بين قدرات شبابنا الكامنة وبين تفجرهم في الاحتراف والعطاء. على سبيل المثال، ما القنوات التي يتعرف بها الشاب إلى معدل رواتب التخصصات المختلفة محليا؟ المعلومة متوافرة وتقدمها بعض الوكالات والمكاتب المتخصصة ويمكن أيضا استقاؤها من مصادر أخرى مثل تقارير التأمينات وغيرها. ولكن هل يعلم بذلك من يقوم على توجيه وإرشاد هؤلاء الطلاب أثناء دراستهم وبناء مهاراتهم على معلومات من هذا النوع؟ هل توجد درجة كافية من الوعي العام حول طبيعة التباينات بين مداخيل المهن وأسبابها؟ لا أعتقد. من جانب آخر، يتم تجهيز القطاع الخاص لاستيعاب المزيد من الخريجين كل عام ويتم إعداد الكفاءات الفنية والإدارية بأعداد ضخمة، ولكن في نهاية الأمر تتحول الأسرة لفريق بحث عن وظيفة حكومية مستقرة. لا يخلو العمل في القطاع الخاص من مخاطر وهي دون أدنى شك مغطاة بمكاسب جيدة تحسن من حياة موظفيه وحياة أسرهم. ولكن نفاذ أوهام الأمان والاستقرار إلى عقول أصحاب الكفاءات يحيد بهم عن مواطن الإبداع والإنتاجية الحقيقية، ما يعطل فعليا فرص نموهم لأن أحدهم احتفظ بالسر ولم يفصح عن حقيقة الأمر.
معظم ما يواجهه الشباب من ملفات سرية هو في الحقيقة عبارة عن ضعف في الشفافية وسوء نقل للمعلومة المؤثرة والمحفزة. فالشاب لن يعرف أن قراره كان خاطئا إلا بعد سنوات عديدة يموت بعدها لديه حافز التغيير. بالطبع هناك من يجتهد أو ربما يجد من يرشده في الوقت المناسب ليصحح من مساره غير أن ذلك لا يتحقق ولا يتاح للجميع. لذلك من الواجب تذليل كل العقبات المهنية المعرفية التي لا تزال موجودة في طريق بناء الكفاءات، من اللحظة التي يبدأ الشاب سنوات تعليمه وحتى يقف على منصة انطلاقه لسوق العمل. يجب أولا أن يتم التركيز على تحفيز أهم عناصر دائرة التأثير، أي الأب والمعلم والمرشد وحتى أساتذة الجامعات والمدربين. أعتقد أن توافر المعلومة الإيجابية بطريقة ملائمة وفي الوقت المناسب يصنع في سوق المهن تطورا طبيعيا تتحول فيه القدرات الكامنة إلى كفاءات نوعية تحسن حياة الفرد ومجتمعه. بينما يصنع إخفاء المعلومة نفسها حالات من عدم التوازن والظلم والقرارات الخاطئة والتشكيك في الإنجازات التي تتحول بدورها إلى يأس يروج للسلوكيات البائسة مثل التندر الساخط على فرص حقيقية متاحة بين أيدينا، وتلك خسارة كبيرة.
نقلا عن الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال