الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ما أكبر مهدد لنجاح الخطط الاستراتيجية في العمل الحكومي السعودي بشكل عام؟ إنها التقارير، معضلة القطاع الحكومي في المملكة. المشكلة التي بلا حل، حتى الآن على الأقل. هذا المقال لشرح (ببساطة) هذه المشكلة المعقدة وحلولها. بداية أستميح أساتذتي في التخطيط الاستراتيجي عذرا، فقد يكون في هذا المقال تجاوز لبعض مفردات هذا العلم، لكني أنقل هنا خلاصة ما تلقيته من معرفة في التخصص مع ما اختلط بها من تجارب ميدانية طوال عقدين من الزمان تجارب في التخطيط الاستراتيجي والتنفيذي على حد سواء. تتعثر الخطط الاستراتيجية لأن التنفيذ في واد آخر. والقرار يتخذ عند القاعدة عند صغار الموظفين ـــ وليعذرني الكثير في هذا التصريح الخالي من الدليل الإحصائي لكنه كما قلت خلاصة تجارب ميدانية. من يتخذ القرارات في عديد من الجهات الحكومية هم موظفون عند المراتب الدنيا، مع الأسف هم صناع القرار فعليا، كيف؟ من يعرف التفاصيل التنفيذية هم الذين في الميدان، لكنهم يرفعون تلك التفاصيل وفقا لهواهم وبطريقتهم وبالمعلومات التي يريدونها أن تصل، وبناء على ما يعتقدون أنه الصحيح أو ما يخدم عملهم وراحتهم، يرفعون الخطابات إلى أعلى الهرم، ويقدمون الآراء التي يتم اتخاذ القرار بناء عليها. باختصار ما يصل إلى أعلى الهرم هو فقط ما يريد التنفيذيون (الصغار) في الميدان أن يصل. ولعلي أستشهد بمقولة الدكتور محمد الرشيد ـــ يرحمه الله ـــ أن مشكلة وزارة التعليم في اجتهادات الميدان. فمهما وضعت من خطط ومهما شرحت من مفاهيم سيطبق التنفيذيون في الميدان ما يريدونه هم لا ما تم التخطيط له.
تعلمنا أن الهيكل التنظيمي ليس مجرد رسم ورقي بل إنه يحمل معنى مهما، فهو يحدد تدفق القرار من أعلى الهرم إلى أدناه، والعكس فهو أيضا يوضح كيف تسير البيانات من أدنى الهرم إلى أعلى، المشكلة في العمل الحكومي أن صناعة البيانات والرفع بها من أدنى الهرم إلى أعلاه غير واضحة وليس لها شكل ثابت وليست لها معايير واضحة واشتراطات صارمة، عديد من الجهات الحكومية يخلط بين التقارير المؤسسية التي تبنى عليها قرارات وبين التقارير الإعلامية التي تصل إلى الإعلام. وفي كل المؤسسات التي عملت فيها أو كنت مستشارا لها، لم تكن التقارير فنية دقيقة ذات معيار تساعد في العمل، عليك أن تبحث عن البيانات بنفسك وبعد رحيل الوقت ستعرف أنك كنت تطارد خيط دخان. ولهذا تتعثر الخطط الاستراتيجية، ذلك لأنها إما بنيت على اجتهادات وآراء بعيدة عن البيانات الحقيقية عند القاعدة، وإما أنها تصل إلى الميدان ثم تختفي في مكاتب التنفيذيين الذين لا يرفعون أي تقارير عن تنفيذ هذه الخطط ولا هم يسألون، وهم معذورون جزئيا، فالخطط الاستراتيجية ومعها خططها التنفيذية لا ترسم طريقا للتقارير الراجعة واضحا ضمن الهيكل التنظيمي ولا شكلا معياريا، حيث تختفي الاجتهادات الميدانية، وحيث تعكس التقارير ما يتم فعليا وليس ما يريد التنفيذي أن يقوله.
يقول المخططون الاستراتيجيون بوجوب اشتراك التنفيذيين في التخطيط، لكني ضد هذه النقطة بالذات، فمشاركتهم يجب أن تتم في مرحلة رفع تقارير ميدانية دقيقة عن التنفيذ أو بيانات لأغراض التخطيط، مشاركتهم في التخطيط نفسه لا جدوى كبيرة منها، فهي من جانب ضياع للوقت بلا معنى، والأخطر أنهم قادرون على فرض توجهاتهم على الخطط إذا تدخلوا في رسم الخطوط العريضة لها. لهذا لا يمكن لجيش يحارب أن يطلب من جنوده التخطيط للحرب، بل يطلب منهم رفع التقارير عن جاهزية العمل، ودقة التنفيذ للخطط، هذا المسافات الواضحة بين التنفيذيين والمخططين تغيب في العمل الحكومي إلى حد بعيد.
كما أشرت أعلاه، وفي ظل غياب التقارير المعيارية الصحيحة التي تفرض معلومات مطلوبة بذاتها، فإن من يتخذ القرار فعليا في الجهات الحكومية هم صغار التنفيذيين (الموظفون) في الميدان، وبالتالي فهم من يشجع إذا كان القرار في مصالحهم أو وفق رؤيتهم للعمل. أما إذا جاءت القرار بعكس هواهم فإن الميدان فيصل المعركة معهم، وهناك يخسر صناع القرار قراراتهم، ويصبح التنفيذ عبثيا. ثم يقومون بشكل منظم بمهاجمة الخطة ومن صنعها، ويستخدمون في ذلك كل أدوات إعلامية متاحة.
الحل دائما في بناء منظومة مكتملة للتقارير ـــ منظومة غير الإعلامية، بل هي تقارير تنفيذية عن مسار العمل، عن استخدام الموارد المتاحة حتى البشرية منها، عن الإنجاز ومقارنة الإنجازات بمثيلتها في شهور سابقة أو فترات ربعية أو نصف سنوية أو على مدى السنوات، هذه المعلومات هي التي تعين متخذ القرار، هي ما يحتاج إليه فعليا لبناء الخطط ولتعديلها إذا لزم الأمر، هي مناط النقاش والجدل مع التنفيذيين.
بالتأكيد ستظهر مشكلة أصيلة مع التقارير المعيارية، ذلك أن من يعدها فعليا هم التنفيذيون في الميدان، أو صغار الموظفين. وهنا قد يقول قائل: عدنا للمشكلة نفسها حتى لو كانت هناك تقارير فإن التنفيذيين سيتلاعبون بها من أجل دعم مصالحهم. الحقيقة أن أي هيكل تنظيمي يجب أن يتضمن خطين إضافيين هما الخط الرقابي (خاصة المراجعة الداخلية والخارجية) والخط الاستشاري. لا يمكن إصلاح النظام الحكومي السعودي ما لم يتم إصلاح التقارير أولا ومن ثم تفعيل المراجعة الداخلية لفحص التقارير ومصداقيتها ومدى موثوقية النظام الذي أخرجها، وأن يكون هناك خط استشاري تعرض عليه التقارير لتحليلها وتلخيصها قبل القرار وبعده. دون هذه الشبكة من الخطوط ضمن الهيكل التنظيمي لكل وزارة وجهة حكومية فلن نعرف على وجه الحقيقة ما إذا كنا في مسار تحقيق الخطط أو أننا انحرفنا عنها أو أنها تحتاج إلى تعديل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال