الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عندما اسندت وزارة الكهرباء إلى الدكتور غازي القصيبي رحمه الله في بداية عهد الملك خالد رحمه الله، كانت أحوال الناس المادية وقدرات الكهرباء بسيطة. انهمر المال على البلاد وارتفعت دخول الناس ارتفاعا عظيما من أواسط عقد السبعينات من القرن الميلادي الماضي. وطبعا زاد الطلب بشدة على الكهرباء وكانت النتيجة كثرة مشكلات انقطاع الكهرباء. عمل القصيبي على اصلاح الوضع بصورة جذرية على أسس علمية واستغرق الأمر سنوات عديدة. وفعلا تم إصلاح الوضع إصلاحا جذريا، بحمد الله، وهذا مما يحسب للقصيبي.
أولع كثيرون في عز انقطاعات الكهرباء آنذاك بالنقد وطرح الآراء وإسداء النصائح والمقترحات وأولع آخرون بنشر الإشاعات. سماهم القصيبي في احد أحاديثه “فلاسفة المقاعد الوثيرة”، الذين يحبون أو يجيدون تسويق كلامهم للناس، ولسان حالهم يقول إنا لكم من الناصحين، لكنهم يخلطون في كلامهم حقا وباطلا ويفتون الناس بما لم يحيطوا به علما. ومما يحمد للقصيبي أنه خرج ووضح للناس الوضع، ولماذا كان أكثر ما يقوله أولئك الفلاسفة على غير علم وهدى.
نشهد الآن وضعا مشابها، بعد صدور قرارات من مجلس الوزراء بفرض رسوم كالرسوم البلدية. كثر المفتون وكثرت الآراء والإشاعات عن الرسوم، وتناقلها الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي خاصة الواتساب. وعندما يسألني من يبدو عليهم الإعجاب بما يقوله أولئك، وبحكم الاختصاص (حقل تخصصي في الماجستير المالية العامة ودرستها في الجامعة ومارستها في وزارة المالية سنوات) عن رأيي فيما يقوله اولئك، اجيب بانهم أخطأوا في فهمهم لمعنى بعض العبارات والإصطلاحات، وخلطوا حقا بباطل، وبعض ما قالوه إفتاء بما لم يحيطوا به علما، أو مجرد إشاعات. ومن تكلم في غير فنه وتخصصه أو كان ناقلا للإشاعات بدون تثبت أتى بالعجائب.
وهنا مثال. قال أحدهم في تغريدة له في حسابه التويتري أن ما سماه مصطلح “تنويع مصادر الدخل” مضلل ويستخدم بديلاً عن كلمة جباية أو مكوس.
تلك العبارة وتغريدات أخرى مشابهة في موضوعها انتشرت بين الناس وفي وسائل التواصل الاجتماعي كانتشار الهشيم وأظن أنها وجدت قبولا من كثيرين. لكن هذه العبارة وأمثالها قائلوها إما مضللون أو جاهلون يتكلمون بما لا يعلمون، وكلاهما مصيبة. إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم. ومن يقبلها طبعا هو أجهل قائلها. وسأوضح لماذا هي مضللة أو قول بلا علم.
دخل (بتسكين الخاء) في لغة العرب لها معان عديدة منها المرض الداخل في أعماق البدن والفساد والريبة (انظر مثلا المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية). وأما في عالم الاقتصاد والمال فقد جاء الاسم “دخل” بلاد العرب ولغتهم في العصر الحديث ترجمة للكلمة INCOME التي لها معنى معروف في علم الاقتصاد. ما هو؟ ما يستلمه الفرد أو المنشآة أو الاقتصاد من مال نقدي أو سلع أو خدمات خلال فترة زمنية معطاة. وباللغة الانجليزية، انظر مثلا the dictionary of modern economics, MIT press :
The amount of funds, goods or services received by an individual, corporation or economy in a given time period.
ويمكن للشخص البحث في مكتبة قوقل للتأكد من هذا المعنى. أما فيما يخص الحكومة أي في المالية العامة، فتطلق عبارة إيرادات وليس دخل. وتبعا يقال تنويع مصادر إيرادات الدولة أو الحكومة وليس تنويع مصادر دخلها.
وسبب التفريق أن أصل أو سبب وجود الحكومات عبر التاريخ هو توفير السلع العامة وليس الخاصة. والسلع العامة في المصطلح الاقتصادي تعني سلعا تمتاز بخصيصتين: لا تقبل الاستبعاد ولا تقبل في أصلها المزاحمة. والأولى تعني أن استهلاك الفرد منها لا يترتب عليه استبعاد غيره من المشاركة في الاستهلاك. والثانية تعني أنه لا يترتب عليه بالضرورة التزاحم في الاستهلاك. ومن أمثلتها توفير الطرق المعبدة وتوفير الأمن. طبعا نعرف أن الدول لأسباب واعتبارات كثيرة دخلت مع الوقت في توفير سلع تعد بين بين أي ليست سلعا عامة محضة وليست سلعا خاصة محضة، وأشهر مثال التعليم العام.
هل سمت الحكومة توجهاتها في رؤية 2030 لزيادة الإيرادات غير النفطية (بغض النظر عن الرأي فيها وفي تفاصيلها) هل سمتها تنويعا لمصادر الدخل؟ لا بالتأكيد. التسمية في وثائق الرؤية وبرنامج التحول هي الإيرادات غير النفطية. لو سمتها مصادر دخل لاعتبرت تسمية خاطئة تنم عن جهل.
مثال آخر. أقر مجلس الوزراء في شهر ذي القعدة/اغسطس الماضي رسوم خدمات بلدية وبين حدودها القصوى. وفوض وزير الشؤون البلدية في إصدار اللوائح والقرارات اللازمة لتنفيذ قرار المجلس، على أن يضع برنامجا زمنيا يراعي فيه التدرج في التنفيذ..ألخ قرار المجلس.
علق الكثيرون وانتقدوا القرار بفهم وأسلوب وطريقة حديث وعرض على الناس كما لو أنه تم إقرار الحد الأعلى. وصدق كثيرون ذلك، وهذا حقيقة موضع استعجاب.
انتشر بين الناس مقطع، قال صاحبه أن محلا مساحته 100 م2 يعني عليه دفع 30 ألف ريال. وزاد الطين بلة بأن نصح الناس التوقف عن الدخول في عمل تجاري. وكأنه يجزم أنه تقرر اختيار رسم 300 ريال للمتر، وهذا تضليل للناس.
كان ينبغي أن طرح أسئلة من قبيل ما احتمال أن يفرض الحد الأعلى وكيف ومتى وعلى أي مساحة؟ علام وضع القرار هكذا؟
وقد صدر، وقت كتابتي لهذا المقال، توضيح من وزارة الشؤون البلدية بأن تطبيق رسوم الخدمات البلدية سيكون بالتدرج ابتداء من الحد الأدنى لها. التوضيح جيد وليته صدر قبل. ومن جهة أخرى، الأمر يتطلب مزيد توضيح وتفاصيل ومقارنات من الداخل والخارج.
باختصار، امتلأت الساحة ووسائل التواصل الاجتماعي بكتابات ومقاطع وإشاعات يتوهم الناس أو كثرة منهم أن أصحابها أهل اختصاص فاهمون مدركون لما يكتبون أو يقولون، ولكنهم ليسوا كذلك، بل هي إفتاء بما لم يحيطوا به علما.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال