الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أستاذ المالية والاقتصاد
prof_alzahrani@
كيف تجعل ابنك أو ابنتك يهتم بالأكل الصحي؟ كيف تزيد من ادخار الافراد؟ كيف ترفع نسبة المشاركة في الأنشطة الرياضية والاهتمام بالصحة العامة؟ كيف تخفف من رمي القاذورات في الشوارع ؟ كيف تزيد من إلتزام الافراد بدفع القروض والمخالفات؟ هذه تساؤلات مهمه إذا اردت إجابات عليها وعلى أسئلة أخرى فأنصحك بقراءة المقال اما إذا لا تهمك فيمكنك تخطيه لان المقال طويل .
إن المتابع للشأن العام في المملكة وقضايا التنمية يلحظ حراك غير عادي على جميع الاصعدة الاقتصادية والسياسية وغيرها، تزامن مع ذلك إقرار الكثير من الاهداف التنموية الطموحة وادخال أساليب جديدة في مناهج التخطيط والموازنة والاداء الحكومي بشكل عام وهناك ارادة سياسية ورغبة حكومية جادة في تحسين كفاءة الانفاق الحكومي وزيادة فعالية البرامج والسياسات العامة . ودعونا نتحدث بصراحه فإن فترة ارتفاع أسعار النفط ولدت تراخي لدى الاجهزة الحكومية في كفاءة الانفاق وفعالية البرامج وكان من الطبيعي أن يتم هدر بعض المال العام على برامج فاشلة او سياسات لم تبنى بشكل صحيح ولم تأخذ في الاعتبار البعد السلوكي للأفراد وبعضها لا زالت آثاره موجودة وبعضها أدت إلى تشوهات عميقة في الاقتصاد .
هذا التغير الايجابي في طريقة إدارة القطاع العام ولد متابعه واهتمام شديدين من قبل المجتمع المحلي وكذلك المجتمع الدولي وأصبحت الرؤية و برنامج التحول الوطني الحصان الذي نتوقع منه الكثير للوصول الى مراحل متقدمة في تحسين إدارة التنمية ومواجهة التحديات في زمن تعقدت فيه المتغيرات الاقتصادية المحيطة. هذا التحول بلا شك له متطلبات تنظيمية وتشريعية وكذلك مناهج اقتصادية جديدة تستخدم أدوات اقتصادية محددة مثل الرسوم والدعم وذلك لحفز الاقتصاد ولزيادة فاعلية وكفاءة البرامج الحكومية .كما أن هذا الحراك يزيد من مستوى المشاركة الاجتماعية للمواطنين في القرارات التي تمس شؤون حياتهم بشكل مباشر وهذا التزايد في مستوى الاهتمام والمشاركة يعتبر حدث هام جدا وفرصة تاريخية يجب استثمارها بالشكل الصحيح وتفعيل الادوات المناسبة للتعامل معها .
وتشير الادبيات الحديثة في مجال السياسات والبرامج العامة الى أهمية أخذ البعد السلوكي كجانب داعم واصيل في هندسة وصياغة السياسات والية فهم الافراد والتواصل معهم والتأثير عليهم إيجابا . وهذا التوجه بدأ يأخذ مؤخرا اهتماما متصاعدا من قبل صانعي السياسات والباحثين والمهتمين حول العالم وذلك بسبب النتائج التي تحققت من هذه النهج وللتدليل على الاهمية المتزايدة لهذا الموضوع فيكفي القول ان الرئيس الامريكي باراك اوباما أسس في عام 2015 فريق من الخبراء السلوكيين والاجتماعيين لهذا الغرض واصدر أمر رئاسي بتبني هذا المنهج لجميع الاجهزة الحكومية ومن قبله قادت الحكومة البريطانية هذا الطريق تحت قيادة رئيس الوزراء «ديفيد كاميرون» الذي أسس الوحدة السلوكية السلوكية” BIT ضمن مكتب رئيس الوزراء ” وذلك بعد انتخابه مباشرة.
هذه الوحدة تسمى اختصارا Nudge Unit أدارها الدكتور ديفيد هالبيرن والذي أصدر كتابا حديثا يوثق فيه التجربه والمنهجية المتبعه وأهم نجاحاتها تحت اسم Inside the Nudge Unit- وهو كتاب أنصح بقراءته بشده وأعمل حاليا على ترجمته للعربية. وقد ساهمت هذه المنهجية السلوكية في إحداث نتائج ملموسة في طريقة عمل الحكومة وصياغة السياسات والبرامج العامه وآلية فهم المستفيدين والتواصل معهم. كما انها وفرت على الحكومة مئات الملايين من الجنيهات الاسترلينية (اكثرمن 300 مليون جنية إسترليني ) والاهم من ذلك أبتكرت طرق وأدوات تواصل حديثة مبنية على منهجية علمية وأدلة من الواقع ساعدت الافراد في أخذ قرارات مهمة في مسائل حياتهم اليومية مثل ترشيد الانفاق على الطاقة وكذلك الادخار والسلوك الصحي والتعليم وغيرها من المجالات.
ويتم اليوم الاستفادة من هذا المنهج في تصميم السياسات الذكية والوصول بالخدمات والبرامج العامة للمواطنين بطريقة فعالة تضمن تواصلهم وتفاعلهم مع هذه البرامج . وباختصار حقق هذا النهج نتائج مبهرة خلال الخمس سنوات الماضية وهوما لفت الانظاراليه على المستوى الدولي مانتج عنه تغييرأكثرمن 136 سياسة حول العالم كما تم انشاء 51 مبادرة حكومية في العديدمن الدول من ضمنها (الولايات المتحدة, المملكة المتحدة , دول الاتحاد الأوربي و,كندا ،استراليا،سنغافورة، والهند وغيرها من الدول ) ومؤخرا أعلنت دولة قطر دخولها هذا المجال بشكل رسمي.
كما أن الاتحاد الاوربي بدأ خطوات جادة في هذا المجال من خلال التطبيق للعملي للسياسات السلوكية في عدة مجالات . ويجدر القول هنا أنه إذا رأت كل هذه الدول ( من ضمنها المفوضية الاوربية المشهوره بالروتينية ومقاومة التغيير) فائدة هذا المجال وبدأت في تطبيقة فحري بنا الاستفادة منه والبدء فورا في وضع تصور حكومي وبرنامج وطني شامل للتطبيقات السلوكية في السياسات العامة.
لكن من المنطقي هنا طرح بعض التساؤلات: ما هو هذا النهج؟ هل هو أحد الصرعات الادارية والسلوكية التي نسمع عنها لفتره ومن ثم تبدأ في التلاشي ؟ وهل هي أحد الاساليب الدعائية المبتكرة لقولبة بعض القرارات الحكومية ؟ في الحقيقة يستند بناء السياسات بحسب هذا المنهج على قاعدة صلبة من الأدلة والبراهين و أحدث ما توصلت اليه الأبحاث في مجال الاقتصاد السلوكي لفهم السلوك البشري، و هو المجال الذي يشهد تطورات كبيرة مدفوعة بأعمال العديد من علماء الاقتصاد الحاصلين على جائزة نوبل في الاقتصاد، حيث حصل خمسة علماء من بداية العام 2000 حتى الآن على جائزة نوبل على أعمالهم المرتبطة بالاقتصاد السلوكي. والاقتصاد السلوكي هو فرع من علم الاقتصاد يجمع بين المفاهيم الاقتصادية والنفسية ويحاجج بان النظريات الاقتصادية المجردة تقوم على تبسيط سلوك الانسان وتتعامل معه بشكل عقلاني بحت وكأنه آلة وكأن سلوكه قابل للنمذجة بشكل دقيق جدا كما في النماذج الرياضية في علم الفيزياء ويطرح علم الاقتصاد السلوكي نظره بديله للانسان تأخذ بعين الاعتبار التأثيرات الاجتماعية و النفسية على اتخاذ القرار للأفراد.
تقوم منهجية الاقتصاد السلوكي على التواضع ومحاول فهم الافراد وسلوكياتهم ومن ثم صياغة السياسات والبرامج بقالب (بيئة القرار) يساعدهم بسهوله على اختيار القرار الصحيح واذا لم يكن ذلك كافيا فيمكن دوما ارسال اشارات توجيه أو ما يسمى«أسلوب الحض» nudges لتنبية الافراد بالخيار الامثل و على سبيل المثال تقطيع الفاكهه يزيد من استهلاكها في المدارس أو تصميم الدرج في منتصف مدخل المبني يزيد من استخدامه في مقابل المصعد الكهربائي مما يزيد من الحركة ويحسن الصحه العامة كما ان تسجيل الموظفين في برنامج ادخاري بطريقة تلقائية دون أي جهد من قبل الموظفين يزيد من الادخار ويترك للموظف حرية الخروج من البرنامج وليس الدخول.
وهذا توجه فلسفي هام يشير إلى أنه من واجب الدولة رعاية مصالح المجتمع وتوجيه وحض الافراد بأهمية إتخاذ القرار والسلوك الصحيح، فمثلا هل يترك للفرد الحرية الكاملة في أكل ما يريد أو عدم ممارسة الرياضة أم أن هذا فيه تكلفة كبيرة على المجتمع ككل في المدى الطويل وبالتالي من واجب الدوله الاهتمام بهذا الموضوع والتدخل لتوجيه الافراد وليس إجبارهم وهذا ما أسماه العالمين سانستين وثالر بالليبرالية الأبوية أو الحرية المرعية أي يتم رعاية مصالح الناس وتوجيههم لكن يترك لهم تقرير ما يرونه أنسب بأنفسهم .
يشير ديفيد هالبرن رئيس الوحدة السلوكية في الحكومة البريطانية والذي يعتبر أحد نجوم السياسة في بريطانيا حاليا (وكذلك في الاوساط الاكاديمية) الى هذه المنهجية في كتابه أنها تستند على العديد من الادلة ونتائج التجارب التي يقوم بجمعها فريق الخبراء السلوكيين وفي صميم هذا الاتجاه، نجد التجارب العشوائية التي يتم التحكم فيها، والمنتشرة في الأبحاث الطبية منذ عقود حيث لا زالت تعتبر أسلوب علمي مناسب لاختبار فعالية دواء جديد الا ان الاقتصاديين السلوكيين استعاروا هذا المنهج لتطبيقه في السياسات والقرارات الحكومية حيث يتم اختبار اي آلية او طريقة جديدة على الافراد في مجموعات ومن ثم محاولة قياس الأثر وبالتالي يتم تعميم التجربة في شكل قرار او برنامج حكومي .
وتُعَدّ التجارب المشابهة في السياسة العامة مهمة، لأنها تستخدم مجموعة ضابطة ؛ هي بمثابة جزء من السكان لم تطبّق عليهم السياسة الجديدة. قد يبدو هذا غريبًا، لكن مراقبة مجموعة لم يتم التدخل فيها هي الطريقة الوحيدة لمعرفة ما إذا كان تغيُّر السلوك قد نتج عن السياسة التي تتم تجربتها، أم لا. مختصرين في ذلك الكثير من الاموال والوقت وقبل ذلك تكلفة الفرصة البديلة والتكاليف الاقتصادية والاجتماعية لفشل برامج يعتقد المسئول انها الافضل استنادا الى قناعاته وأرائه الشخصية وفهمه لسلوك المواطن بطريقة مغلوطة وغير علمية.
على سبيل المثال هل إرسال رسائل تذكير بقرب موعد سداد الرسوم يساهم فعلا في الانتظام بالدفع من قبل المواطنين أم أن هناك طرق أخرى يمكن أن تختبر وبناء على ذلك يمكن عمل تغييرات بسيطة تحقق نتائج فعالة .
تشير العديد من الدراسات إلى أن تغيير سلوك الافراد لا يكون بالضرورة من خلال الحوافز و العقوبات المالية أو من خلال سن الأنظمة و القوانين أو نشر المزيد من المعلومات ، حيث يعتقد الكثيرون أن الحملات التوعية هي الخيارالامثل لتغييرالسلوكيات غيرالمرغوبة ،فمثلا تشير وزارة الكهرباء والمياة انها حاولت اقناع المواطنين بضرورة الترشيد في استخدام المياه طوال العشرسنوات الماضية دون جدوى،ولايزال الكثيرون يعتقدون بنجاعة حملات التوعية التقليدية وأن المزيد منها قد يساعد في الوصول لأهدافهم ولتغييرسلوك المواطنين المستهدفين في هذه الحملات وفي الحقيقة ان الحملات التوعوية بطريقتها الوعظية التقليدية من شاكله “لا تسرع فإن السرعه خطيرة” لا تغير شيئا كثيرا حيث يتجاهلها السائقين ويعتبرونها لا تعنيهم بشكل مباشر. وفي الواقع يوجد العديد من الطرق المبتكره التي تساعد الناس في التفاعل الايجابي والامتثال بعيدا عن الارشاد المباشر. ومن بين الأمثلة على ذلك.
شركة « O Power» التي يقع مقرها الرئيس في أرلينتون بولاية فيرجينيا، وتروِّج للاستهلاك المستدام للطاقة حيث تفيد الشركة في تقاريرها بأن عملاءها وفّروا ما يعادل 75 مليون دولار، وهو توفير لا يستهان به ،هذه النتائج كانت بسبب التوظيف الذكي للتجارب السلوكية في علم النفس الاجتماعي، وعلم الاقتصاد السلوكي.
وجدت الشركة أن أفضل طريقة لجعل الأشخاص يوفِّرون الطاقة لا تتمثل في جَعْلهم يشعرون بالذنب تجاه البيئة، أو في الوعد بفواتير أرخص، لكنْ في توفير طريقة سهلة للأسر كي تقارن استهلاكها للطاقة بإستهلاك الجيران، حيث أن المقارنة الاجتماعية وضغط النظراء يؤديان إلى نتيجة أفضل من أيّ محاضرة عن الكيفية التي من المفترَض أن نتصرف بها.
وحدة سلوكية داخل السعودية
إن المتغيرات السياسية والاقتصادية وارتفاع التوقعات من قبل الأفراد يتطلب من الحكومات إستخدام طرق جديدة في التفكير وإيجاد الحلول واشراك المواطنين والاستفادة من المراكز البحثية والمؤسسات الاكاديمية لعمل مشاريع مشتركة وللاستفادة من الافكار الجديدة (خارج المنظومة الحكومية) في تسيير السياسات والبرامج الحكومي. إنها ببساطة دعوة لدمج العلوم والمعارف المنبثقة من الاقتصاد السلوكي لتصبح من صميم العمل الحكومي وأساس جوهري في صياغة السياسات وتوجيهها، فلم يعد بإمكان المؤسسات العامة تحمُّل النتائج المالية والاجتماعية الناتجة عن عدم اختبار السياسات قبل تطبيقها. . كل هذا لا يمكن ان يتم الا من خلال الدعم السياسي والاداري المناسب لإنجاح مثل هذا الاقتراح المفيد. ومن هذا المنطلق أدعوا للتفكير الجاد في مقترح إنشاء وحدة مماثلة في المملكة قائمة على المدرسة السلوكية في الاقتصاد والبدء فوراً في وضع تصور حكومي وبرنامج وطني شامل للتطبيقات السلوكية في السياسات العامة ولعلي في المقال القادم بإذن الله ابدأ الكتابة بالتفصيل عن هذا المقترح وأهم المجالات التي من الممكن البدء بالعمل عليها .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال