الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
رئيس تنفيذي لشركة استثمارية – دبي
ahmad_khatib@
في منتصف السبعينات، كان الاقتصاد البريطاني قد وصل إلى مرحلة حرجة ضغطت على الجنيه الاسترليني بشكل قوي. ارتفع التضخم إلى مستويات قياسية مع استمرار الصرف الحكومي الكبير. لمنع الانهيار الكامل لم يكن أمام حزب العمال الحاكم سوى اللجوء إلى صندوق النقد للحصول على قرض إنقاذي وهو ما حصل بعد مفاوضات مضنية مصحوبا باشتراطات لخفض الإنفاق الحكومي. استقرت الأمور قليلا بعد ذلك بدون وجود افاق واضحة للمستقبل وهو ما سمح لزعيمة المحافظين، مارغريت ثاتشير بالفوز في الانتخابات واستلام الحكم.
جاءت المرأة الحديدية إلى رئاسة الوزراء ببرنامج اقتصادي عنوانه التقشف. بدأت مباشرة بتطبيق التغييرات الاقتصادية التي اعمتدت بشكل كبير على السياسات النقدية لكبح جماح التضخم ونجحت بذلك تدريجيا. أجرت أيضا إصلاحات ضريبية من حيث تخفيض الضرائب على الأجور وزيادة الضرائب غير المباشرة. سارت أيضا ثاتشر في مشاريع خصخصة اشتهرت بها على مستوى العالم فيما بعد كان هدفها تأمين عوائد للخزينة من جهة، ومن جهة أخرى رفع كفاءة التشغيل والإنتاج. بالإضافة الى ذلك عملت حكومتها على تغيير الكثير من قوانين العمل والنقابات العمالية التي كانت تعطل الإنتاج بشكل مستمر عن طريق الإضرابات.
اختلف الكثير من النخب الاقتصادية مع ثاتشر طوال فترة حكمها ووصل الأمر في إحدى المرات إلى أن وقع مئات من الاقتصاديين المرموقين رسالة تحذر من سياسات ثاتشر الاقتصادية وخصوصا مع دخول العالم في مرحلة ركود اقتصادي بداية الثمانينات. وبسبب تخفيض الصرف على بعض مشاريع التعليم كانت ثاتشير أول خريجة من جامعة أوكسفورد تتولى رئاسة الوزراء ولا تمنحها الجامعة الدكتوراة الفخرية.
اسمتر حكم ثاتشر إلى عام 1990 والنتيجة كانت ارتفاع الناتج القومي بنسبة 23% وخفض المصاريف الحكومية في قطاعات كثيرة بشكل كبير وعودة التوازن إلى الجنيه الاسترليني. لم تكن العوامل الاقتصادية خلال تلك الفترة دائما مريحة بل شهدت خضات متكررة في عدة مرات لكن العمل استمر في اتجاه الرؤية الاقتصادية وتحقيق الأهداف وفازت ثاتشر بالانتخابات مرتين إضافة للمرة الأولى التي جاءت بها إلى الحكم.
ابتعدت ثاتشر عن السياسة بعد ذلك وتوفيت عام 2013 عن عمر 87 عاما وتركت وراءها ما يعرف ب “ثاتشرنوميكس” نسبة إلى سياساتها الاقتصادية والأثر الإيجابي الذي أحدثته في الاقتصاد البريطاني خلال فترة حرجة.
حاليا مازال الاقتصاد البريطاني يمر بفترات صعبة منذ الأزمة المالية العالمية حاله حال معظم الاقتصادات الكبرى. وفي خضم هذه الصعوبات جاء التصويت في الاستفتاء الشعبي لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليخلط كل الأوراق ويزيد الأمور تعقيدا. اهتز الجنيه الاسترليني من جديد وتغيرت الوجوه الحاكمة وجاءت بامرأة حديدية أخرى إلى سدة الحكم. تواجه تيريزا ماي تحديات لا تقل صعوبة عن تلك التي واجهت ثاتشر في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. من المبكر جدا تقييم عملها ونتائجه إلا أن الواضح هو أن هناك سياسات يتم وضعها وإعلانها بالتدريج باتجاه الإصلاحات ونقل الاقتصاد البريطاني تدريجيا إلى مرحلة جديدة.
بالمقارنة مع أوضاع الاقتصاد البريطاني وسياساته الإصلاحية التي أوردت بعضا من تاريخها هنا كمثال، لا نختلف كثيرا في بلادنا العربية كتقاد اقتصاديين عن ما حدث في بريطانيا سابقا. يتم الهجوم على أي سياسات إصلاحية من قبل النخب، وغير النخب أيضا عندنا، بدون انتظار تقييم النتائج البعيدة المدى وأيضا بدون أخذ المتغيرات والتحديات المستمرة في الحسبان. من الخطأ جدا الحكم بفشل سياسات إصلاحية جريئة في بدايتها وخصوصا عندما يأخذ التقد طابعا شخصيا وإن تم تغليفه بكلام اقتصادي منمق.
إن العمل باتجاه الإصلاحات الاقتصادية في العالم العربي أصبح أمرا لا يمكن التراجع عنه، ولا يمكن لذلك أن يتم إذا كنا سنغوص كل مرة في التفاصيل الهامشية. العجلة يجب أن تستمر والحكم للنتائج فقط وليس للاراء الشخصية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال