الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بين الانضباطية و الانجاز (الانتاجية) تتوه كثير من الرؤى الإدارية. فهناك من يفترض ان الانضباطية اساس للانجاز فلا يمكن ان يصبح الثوب ثوبا بدون تواجد الخياط وممارسته العمل. بينما يرى آخرون أن الربط الشديد بين الانضباطية والانجاز جعلهما يستخدمان بشكل مترادف وهذا لا يعبر عن الحقيقة. فالبطالة المقنعة عبارة عن موظفين بلا عمل. وبين هذا النقاش المبني على المفردات ومدلولاتها المقصودة سنحاول تسليط الضوء على المشهد بشيء من التنوع المبني على مفهوم الانتاجية وكيفية تأسيسها وتعزيزها. الحديث عن الانتاجية هو رغبة في الحديث عن مقياس الأداء. اذا كان لدينا عدد من الموظفين ونريد ان نميز بينهم فاحد أهم اساليب القياس هو مقدار الانتاجية (حجم الانجاز)، فنقول خلال ساعة عمل واحدة مثلا: محمد انجز اربع معاملات و خالد انجز معاملتين وبهذا يظهر لنا تخلف انتاجية خالد عن محمد. فالمؤسسات والشركات الخاصة تعتبر مضي الوقت دون انتاجية تخفيض في مقدرتها المالية لان ذلك يعني انتاج اقل وبالتالي معروض اقل فمبيعات أقل رغم تحمل عبء عنصر التكلفة (العامل). وكذا في الخدمات اذا كان موظف خدمة العملاء لا ينجز الا معاملة واحدة خلال اليوم فمعنى ذلك ان هناك العديد من العملاء لا يجدون الخدمة وبالتالي يعزفون عن طلب الخدمة بل قد يكون عن كونهم عملاء. قياس الأداء او قياس الانتاجية في مجال قطاع الأعمال عادة ما يكون ايسر واكثر وضوحا بسبب سهولة تحديد العامل المؤثر في الانتاجية. فمثلا نادرا ان تظهر حالة البطالة المقنعة في القطاع الخاص بسبب المراقبة الشديدة لعنصر التكلفة فوجود الموظف هو زيادة في عناصر التكاليف يجب ان يقابله قدرة على توليد ايراد للمؤسسة وإلا كان ذلك العنصر خسارة ستتراكم بتعدد هذا العنصر فتخرج المنشأة من قدرتها على المنافسة في السوق. بل ان العديد من القطاعات الخاصة تتميز بامكانية تجسيد الانتاجية في عدد الوحدات المنتجة مثلا كرسي, آلة, جهاز …الخ. وبالتالي تكون الانتاجية ظاهرة ومشهودة بل وملموسة. وهذا الامر يكون اكثر صعوبة في القطاع الخدمي الخاص ولكن كما قلنا القطاع الخاص يقوم على هاجس الربحية والذي يجعل الفكر الاداري يقيم كل عملية استقطاب لأي موظف وفق التكلفة والعائد فلا يدخل الموظف الا وهو ذا تأثير في العملية الانتاجية والا ما استقامت موازنة التكلفة والعائد. الأمر يختلف تماما بالنسبة للقطاع العام لاسباب عدة أبرزها غياب هاجس الربحية وتعقيدات الانظمة والهياكل التنظيمية الذي يجعل ادوار الرقابة اقل تواجدا مما هو عليه في القطاع الخاص. فمثلا الموظف الحكومي في قطاع الجوازات يمكن قياس انتاجيته بعدد المسافرين الذي ينجز اجراءاتهم دخولهم او خروجهم وايضا الآخر في قطاع الأحوال يمكن قياس ذلك بعدد المراجعين قياسا بالوقت الذي يقضيه. حين نطلق الانتاجية فالمفهوم يشمل جانبي الكفاءة والفعالية الاقتصادية سواء اردنا ان ننجز باقل وقت ممكن وبالتالي اقل تكلفة او كنا نريد على الاقل فعالية بتحقيق الاهداف بغض النظر عن التكاليف الداخلة في عملية الانجاز. لذا مفهوم الانتاجية ليس بيسير ابدا في مجال العمل بل قد يكون هو لب هذا المجال. فنظريات التحفيز وتطوير بيئة العمل والقيادة وخلافه تدور حول عملية تحقيق اهداف المنظمات وهذا لن يكون بدون فرق عمل ملتزمة ومستشعرة وعاملة وفعالة ومنجزة (منتجة). أحد أهم مصادر الانتاجية كما تطرقنا تحديد العامل الذي بناءا عليه سنقيس الانتاجية. فالحديث عن الانتاجية في القطاع العام والتوجه لإلقاء اللوم على الموظف (الفرد) محل الدراسة يحتاج منا طرح أسئلة مشروعة وهي هل نملك أساسا مقومات قياس الانتاجية؟ هل لدينا توصيفات وظيفية واضحة يعيها الموظف قبل المقيم له؟؟ هل البيئة العامة داخل المؤسسات الحكومية قائمة على هدف الانجاز والانتاجية قبل مجرد الانضباطية؟؟ هل المناخ العام في القطاعات الحكومية محفز سواء ماديا او معنويا لرفع مستويات الانتاجية؟؟ هل السلالم الوظيفية والحقوق الوظيفية على نحو من الوضوح والعدالة والأمانة التي تخلق مناخ ملائم للحافزية؟؟ هل المسئول والمراتب العليا يثقون بامكانية تعزيز الانتاجية كقيمة عمل؟؟ هل لدى المستويات الادارية العليا في مختلف القطاعات القدرة على الانتاجية وصناعة الانتاجية وتعزيزها والمحاسبة او القياس من خلالها؟؟. هذه الاسئلة برأيي مفصلية والجواب عنها لن يغطيه تصريح او حتى مقال بل يحتاج الى دراسة ميدانية امينة و موضوعية تبحث عن ملامسة الخلل لاصلاحه. سأكون متحيزا قليلا ومن واقع ما اشاهده والمسه و اسمعه من موظفي القطاعات العامة المختلفة تواجد ضبابية واسعة حول معظم الأسئلة السابق طرحها. فلو ركزنا مثلا على موضوع توصيفات العمل للموظف الحكومي ومدى وضوحها له وللمستوى الاداري المتصل به. كثيرا ما تواجه موظف بمسمى وظيفي معين و ادواره ومهامه مختلفة تماما عن ما يوحي اليه اسمه الوظيفي. بل انك لو سألت هذا الموظف عن مهامه وواجباته لن تستغرب ان تردد او اكثر الاحالة الى مديره (قال لي اعمل كذا ودورك كذا) دون ان يكون لديه وضوح كامل لواجباته وحقوقه. فغياب التوصيفات يجعل موضوع قياس الاداء موضوعا وهميا وغير صادق. فإذا كنت لا تمتلك اداة القياس كيف ستحدد مستوى الاداء كيف ستطلق حكم الانتاجية من عدمها على موظف بعينة. بل إن بعض المدراء لا يعي دوره وما هو الا عبء على المستوى الاداري الاعلى منه. وهكذا تكون الضبابية واسعة جدا و الاعمال ما هي الا اجتهادات ومحاولات لاثبات الذات او ملأ فراغ وقت العمل. كثيرا ما تواجه مثلا في قطاع حكومي معين غياب لموظف بشكل متكرر ولو سألت بدقة وعمق عن حال الموظف في العمل ستجده غالبا لا يعي ما هو دوره وما تأثيره على مجرى العمل وهذا الامر يقلل من الانتاجية بلا شك. فحين اكون غير واعي بمساهمة ما اقوم به في اداء المنشاة فسأشعر بان وجودي كعدمة و ما اقوم به لا يقدم ولا يؤخر وهذا لا يتواجد إلا في المناخ العملي الغير محترف او الغير معترف باهمية الانجاز والانتاجية. أنا لا اعتقد ان انتاجية الموظف السعودي رديئة لدرجة انها لا تجاوز الساعة والساعتين، ولست ايضا بائعا للوهم واقول انها تناطح انتاجية الموظف الياباني مثلا لكن الموظف السعودي ما هو الا مرآة للانظمة واللوائح والمستويات الادارية العليا.فمثلا موظف لا يعرف دوره ولا واجباته ويسير فقط وفق توجيهات مديره فمتى كانت التوجيهات لا تجاوز العشر دقائق فان انتاجية كذلك! وكما يقال ان معتقدات وتوجهات المستويات الادارية العليا (القيادية) تلقي بظلالها بشكل او بآخر على المستويات الادارية والوظيفية الدنيا. فمثلا موظف الجوازات لا اعتقد ان انتاجيتة لا تجاوز الساعة او الساعتين!! فبمجرد ملاحظة سريعة على مسارات الجوزات بمنافذ المملكة سنجد انها اكثر من ذلك لكن هي انتاجية مثالية ؟؟ (فهذا يحتاج بحث) أيضا المعلم والاستاذ الجامعي والقاضي و الطبيب و العسكري كلهم لا اظن ان انتاجيتهم بتلك الرداءة فإن كان هناك دراسة انتهت الى ذلك فتلك الدراسة تحتاج الى اعادة دراسة للتحقق من مدى قدرتها على عكس الواقع بالشكل المطلوب. ليست كل دراسة تعني الموضوعية او كمال الاعتمادية فنعلم ان الدراسات محدودة بمحددات المناهج البحثية والاساليب المختلفة في جمع المعلومات وايضا قدرات الباحث المكانية والمالية ونحوها. لذا ليس متأكا قويا الاعتماد على دراسة (غير معلومة) لاصدار احكام تزيد حافزية الموظف السعودي تهمشا و احباطا. أقدر ان أحد اهداف وزارة الخدمة المدنية الحالية وفق برنامج التحول هو تقليل حجم التعيين و زيادة حجم المسئولية داخل القطاعات الحكومية لصرف الشباب عن جعل الوظيفية الحكومية هدفا لا يضاهى مهما توفرت الفرص في القطاع الخاص. اعتقد ان هذا الهدف يحتاج الى اعادة دراسة، فترشيد الانفاق على رواتب الموظفين من خلال تقليصهم (بتقنين التعيين او زيادة وسائل التقييم والتقويم لاضعاف الجاذبية) لا يجب ان يكون على حساب البيئة بشكل كامل. بمعنى التركيز الشديد على هذا الهدف ما هو تأثيره على الموظف الحالي ؟؟ هل سيزيده انتاجية؟؟ هل سيضيف له الحافزية والاقبال على العمل؟؟ ام انه سيزيد الأمر سوءا وبالتالي يكون حجم التقليص الناتج عن ضعف الانتاجية يفوق حجم التعيين ونصل نهاية الى غياب انتاجية المؤسسات بشكل كامل و عجز لم يكن مقصودا. لست سودايا ولا محاولا لعكف المشهد لكني فقط مقتنع تماما ان الموظف السعودي او اي موظف في العالم هو غالبا مرآه تعكس بيئة وطبيعة ومناخ المنشأة باهم مكون لها وهو المستويات الادارية العليا بمختلفها. اعتقد ان الجدل القائم حول انتاجية الموظف السعودي يدعونا الى اعداد مشروع متكامل يبحث المشكلة ويحللها الى تفاصيلها الصغيرة ( التي قد تشمل مثلا تقنيات التكييف و الاجهزة الحاسوبية ومدى تاثيرها على انتاجية الموظف في القطاع العام فمثلا ليس منطقيا ان تطلب من موظف الانتاجية في فصل الصيف وهو يعمل بدون مكيف !!). فالمشروع يجب ان تتبناه وزارة الخدمة المدنية وتجعل روح هذا المشروع ليست اقتصادية صرفة تتناغم مع هدف الترشيد في الانفاق فقط وانما ايضا تكون بروح مفعمة باستغلال طاقات المواطن السعودي بشكل عميق للحصول على مؤسسات قطاع عام منجزة ومنتجة ومبهرة . خاتمة: لتستشعر دور القيادة على انتاجية المؤسسات وبالتالي انتاجية الموظف عليك مثلا ان تنظر الى شركة ارامكو التي تملأ اركانها بشباب سعودي منجز ومنتج وجد البيئة التي تحفزه والادارة العليا التي تشجعه، وكذا الحديث عن شركات عالمية كأبل ومايكروسوفت التي تجعل من هدف الانتاجية والابداع في الانتاج قيمة تزرع في كل موظف او مهندس.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال