الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
رئيس تنفيذي لشركة استثمارية – دبي
ahmad_khatib@
يروي رئيس وزراء سنغافورة الأسبق وصانع معجزتها الاقتصادية لي كوان يو في مذكراته أنه في العام 1965 وبعد طرد بلاده من الاتحاد مع ماليزيا، لم يتمكن من النوم على الإطلاق خشية على مستقبل البلاد وذهب إلى مكان منعزل لمدة 6 أسابيع. كان لي كوان يو قد عمل جاهدا قبل ذلك على الاندماج مع ماليزيا ومحاولة البقاء في الاتحاد نظرا لشح الموارد في سنغافورة وعدم استطاعتها تأمين احتياجاتها اقتصاديا بدون الحصول على دعم من الخارج. في وضع غريب ونادر، فُرض على سنغافورة استقلال لا تريده وأصبح لي كوان يو مسؤولا عن إدارة جمهورية فقيرة لا تملك أي موارد وذات بطالة عالية.
خلال خلوته كان لي كوان يو قد فكر في طريقة العمل وباشر بمحاولاته فورا. أراد أن ينشيء صناعات محلية لكن محاولاته الذاتية باءت بالفشل ومع ذلك استمر بالمحاولة عن طريق التجربة والخطأ إلى أن وجد أن الاعتماد على تحويل سنغافورة إلى مركز للاستثمارات الخارجية هو ما سيساعد على خلق الوظائف وتطوير الاقتصاد.
عكف رئيس الوزراء بعد ذلك بمساعدة معاونيه ومجلس التنمية الاقتصادية على بناء المنظومة والهيكلية التي تجذب الاستثمارات الأجنبية. تم التركيز على وضع القوانين اللازمة وإنشاء الجهات المطلوب منها التنفيذ. بالتدريج، أصبح هناك نواة منظومة متكاملة من القوانين والبنية التحتية والبنية الاجتماعية والسياحية. في كثير من الأحيان يتم إغفال الجوانب المعيشية والسياحية عند محاولة جذب الاستثمارات الأجنبية بحيث يتم التركيز على الأعمال والأرقام فقط بدون الأخذ في الاعتبار أن قدوم الاستثمارات الأجنبية يتطلب توفير بيئة معيشية أفضل لأن المستثمر الأجنبي يقارن بين البلدان قبل اتخاذ القرار وأحد عوامل المقارنة المهمة هو قدرة المستثمرين والعاملين الأجانب على التأقلم مع البيئة المحلية.
إن استقطاب الاستثمارات الأجنبية لا يعني فقط جلب الأموال بل معها الخبرات والقدرات التدريبية لتطوير الاقتصاد المحلي. تطوير أي اقتصاد هو عملية تراكمية في كل مجالاته ويحتاج إلى الممارسة المستمرة ولا يكفي أن يأتي بعض المستثمرين الذين يقومون بضخ الأموال وتشغيل بعض المصانع. الدليل على ذلك ما حدث في سنغافورة عندما جعلها لي كوان يو مركزا ماليا عالميا. أيضا بالتدريج، هيأ البيئة الكاملة التي جذبت المصرفيين والماليين من أنحاء العالم لتأسيس مقرات إقليمية تحول الكثير منها فيما بعد إلى مقرات عالمية وأصبحت الخبرات المالية التي تعمل في سنغافورة من الأفضل في العالم وساهمت تلك الخبرات بدورها في تطوير القطاع المالي وبالتالي استمرار تدفق الأموال والخبرات الأجنبية.
من ضمن ما قام به لي كوان يو أيضا في سبيل تهيئة البيئة والبنية التحتية هو وضع أنظمة صارمة لمكافحة الفساد ونجح في ذلك إلى حد كبير. بشكل عام، كان لي كوان يو يحكم بطريقة أقرب للديكتاتورية الصارمة في تنفيذ الرؤية الاستراتيجية والدفاع عنها حتى أنه يقول بنفسه أنه لو خيّر بين أن يكون قائدا محبوبا أو مهابا لاختار أن يكون مهابا وهو ما كان عليه فعلا لأن تنفيذ المشاريع والخطط الجريئة يحتاج إلى الصرامة والحزم ولا يمكن تعريض نمو الاقتصاد الوطني للخطر. وفي هذا الإطار فإنه أعطى إذنا بملاحقة أحد الوزراء بتهم الفساد مما أدى إلى انتحار ذلك الوزير.
قد يختلف البعض مع أسلوب لي كوان يو أو قد يعتبرونه ديكتاتورا أو ما شابه ذلك من انتقادات لكن العبرة دائما بالخواتيم. أصبحت سنغافورة مركزا ماليا عالميا بالإضافة إلى كونها مقرا للعديد من الشركات العالمية ولكن الأهم من ذلك كله كنتيجة اقتصادية هو نسبة البطالة التي تعبتر من الأقل في العالم، ومعدل دخل للأفراد من الأعلى في العالم ويفوق بأضعاف الدول الاسيوية المجاورة وناتج محلي ضخم رغم صغر مساحة البلد وعدد سكانه.
برأيي أنه لا يمكن النظر إلى تجربة سنغافورة في جذب الاستثمارات الأجنبية ونجاحها الباهر في ذلك بدون دراسة أسلوب عمل لي كوان يو وطريقة تنفيذه للخطط. مدرسة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال