الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
باحث ومستشار اقتصادي
AbdullahHabter@
تشترك أغلب العلوم الاجتماعية والعلمية خصوصا التجريبية منها في ما يسمى بالظاهرة، ذلك المسمى الذي خلق لدى الباحثين شغفا بتحليل هذه الظواهر وتتبعها وجمع البيانات المتعلقة بها أملا في التنبؤ بوقوعها أو حدوثها وفق قوانين حتمية من وجهة نظر البعض منهم، الأمر الذي خلق تباينا بين أراء العلماء ، وتناقضا فيما توصل إليه البعض من نتائج.
ذلك الخلاف أدى لظهور ما يُعرف بمبدأ الريبة أو الشك لهايزنبرغ “Heisenberg’s uncertainty principle” والذي يطلق أحيانا مبدأ عدم اليقين، “Uncertainty principle” وهذا المبدأ يعرفه جيدا المتخصصين في الفيزياء، ولعل البعض من غيرهم لم يكن سمع به من قبل، إلا أن هناك مصطلحا يقارب له وهو “عدم اليقين”، يستخدمه بكثرة بعض المحللين الاقتصاديين سواء في كتاباتهم، أو تفسيراتهم لبعض الظروف والمتغيرات الاقتصادية التي تمر بها الدول وما يتبع ذلك من تأثيرات تؤثر على أسواق المال بل قد يمتد أثرها إلى ما وراء الحدود كما حدث في الأزمة العالمية التي ضربت الاقتصاد الأميركي وامتد أثرها على الاقتصاد العالمي.
ومبدأ الريبة لهايزنبرغ – والتي تطرقت له بعض البحوث الاقتصادية – من أهم المبادئ الأساسية في نظرية الكم إحدى النظريات الحديثة في الفيزياء، والتي طرحت للرد على مبدأ الحتمية التي تقول أن الظواهر تحدث وفق تسلسل منطقي “حتمي” وبالتالي يمكن صياغتها في قوانين دقيقة تساعد في التنبؤ بالظواهر بشكل حتمي قبل وقوعها، ومن هذا نستنتج أن مبدأ الريبة يقول بخلاف ذلك، وهو أنه مهما بلغ الإنسان من المعرفة والقدرة فلا يمكنه معرفة كل شيء بدقة، وهذا يثبت عدم دقة أو ضعف تنبؤ بعض النماذج الرياضية الاقتصادية -خلاف النظريات الاقتصادية- التي صيغت سابقا في تحليل تأثير بعض المتغيرات الاقتصادية في السابق مقارنة بما هي عليه الآن، مما حدا ببعض الدول ممثلة في بنوكها المركزية في اتخاذ سياسات اقتصادية لم تكن معهودة من قبل، أملا في إحداث تأثير على سلوك الوحدات الاقتصادية أفرادا كانوا أو منشآت.
ومن الأمثلة على ذلك القرار الذي اتخذه الاحتياطي الفيدرالي بشأن سياسة التيسير الكمي، والقرارات التي اتخذتها بعض البنوك المركزية من خلال إقرار الفائدة السلبية، وإقبال المستثمرين غير المتوقع على السندات ذات العائد السلبي، هذا خلاف ما يردده بعض الاقتصاديين في التفكير فيما يسمى بأموال الهيلوكوبتر (Helicopter money) وهذا المصطلح الذي يعني أن يقوم البنك المركزي بإعطاء دفعات مالية مباشرة إلى الأفراد، أو تمويل النفقات المالية للحكومة، بمعنى طباعة النقود بدلا من زيادة الضرائب، أو الدين لتمويل الإنفاق, والهدف من هذه السياسة في نهاية الأمر هو رفع طلب المستهلكين وإنفاقهم، وبالتالي زيادة التضخم للمستويات المقبولة، أملا في الخروج من الركود وانعاش الاقتصاد.
ومن دون شك أن هذا الفارق الكبير في نتائج التنبؤ التي تنتج من هذه النماذج الاقتصادية سابقا مقارنة بنتائجها المتوقعة مستقبلا راجع للعولمة التي جعلت من العالم أشبه بقرية صغيرة، أدى لتداخل كبير وتشابك أكثر تعقيدا بين اقتصاديات دوله، وسهولة انتقال رؤوس الأموال بضغطة زر، وممارسة البيع والتداول خصوصا في الأوراق المالية والعملات دون قيود، بل قد يتخذ المتداول قرار البيع والشراء وهو مستلق في بيته، إضافة للهيمنة الاقتصادية لبعض الدول وتأثيرها الواضح في تبني عقوبات اقتصادية أضرت بدول أخرى سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، جعلت من تلك السياسات التي اتخذتها تلك الدول المتضررة كردة فعل لتلك العقوبات مقيدة أو عديمة الجدوى.
إن حالة عدم اليقين التي يعيشها الاقتصاد العالمي تعطي تصورا إلى مدى القلق الذي بات مؤثرا تأثيرا على سلوك الأفراد، وقرارتهم، إضافة للتأثيرات الجو سياسية وحالة الشد التي باتت سمة في السنوات الأخيرة، إضافة للحرب الاقتصادية العلنية التي تمارسها بعض الدول الكبرى في صورة عقوبات ضد اقتصاديات أخرى كما هو الحال مع روسيا، هذا خلاف ما يدور في الخفاء من حرب خفية بين الاقتصاديات الكبرى والتي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ضد بعض الاقتصاديات المنافسة كاليابان والصين، تلك الأحداث تعطي نتائج عكسية، وإلى أي مدى وصل العالم لحالة من التشاؤم تجاه الوضع الاقتصادي العالمي.
في المقابل نجد أن الاقتصاد المحلي لا يختلف كثيرا عن حالة القلق وعدم اليقين التي يمر بها حاليا، إذا بدأ تأثره يزداد نتيجة لانخفاض أسعار النفط، وتأثيرها السلبي الكبير على إيرادات الدولة، وتبعات ذلك على الميزانية العامة، والذي أدى إلى عجز كبير – ومن المتوقع والعلم عند الله أن يستمر لبضع سنوات – ومرورا بالقرارات الملكية التي صدرت مؤخرا، والتي تتعلق بإيقاف ببعض المصروفات والبدلات، والتي تحمل في طياتها بعدا آخر في صورة ضبابية، لابد أن تلقي بضلالها على الاقتصاد، نتيجة لانخفاض دخول الأفراد، والذي سينعكس سلبا على الأداء الاقتصادي المحلي بشكل عام.
إذا نظرنا لهذه القرارات نجدها خلقت حالة من عدم اليقين حول الوضع الاقتصادي الداخلي، تتزايد تلك الحالة مع الزمن لتعطي سلوكا شبه ممنهج يتخذه أغلب الأفراد دون إعداد أو اتفاق مسبق يتضح ذلك السلوك في ضعف في الطلب نتيجة للانخفاض دخولهم أو لارتفاع درجة اليقين لديهم في ان تنخفض الأسعار إضافة لحالة التقشف التي تمر بها البلاد، فمن دون شك أن اللاعب الرئيس والمحرك للاقتصاد هو الإنفاق الحكومي، إضافة للسلوك الذي يتخذه أفراد المجتمع، ففي فترات الرواج والانتعاش يتخذ الأفراد نمطا استهلاكيا متزايدا تنتعش معه القطاعات الاقتصادية الأخرى، في المقابل عندما تكون أجواء عدم اليقين الحالة السائدة على سلوك الأفراد كما الحال عليه الآن، عندها يبدأ كل فرد في تقليص استهلاكه أو تأجيل قرار الشراء أملا في انخفاض الأسعار والحصول على عروض قد يندم على عدم الظفر بها فيما لو اتخذ قرار الشراء من قبل.
ونجد تضاربا بين بعض المحللين والتقارير التي تصدرها بعض المنضمات كصندوق النقد الدولي، أو مكاتب الاستشارات حول احتمال التحسن في الاقتصاد المحلي، وتحقيق الاقتصاد لمعدل نمو أفضل من المتوقع، هذا التضارب في جوهره نتيجة لاختلاف درجة عدم اليقين بين المحللين، الناتجة عن القراءة لبعض المتغيرات الاقتصادية، فالبعض لدية مستوى منخفض من عدم اليقين واحتمال تعافي الاقتصاد استنادا للتوقع بتحسن أسواق النفط وبالتالي زيادة إيراداته، وانخفاض العجز مستقبلا، إضافة لتركيز الرؤية 2030، على تقليل الاعتماد على النفط، وإيجاد بدائل لإيرادات الدولة ، في حين يحمل البعض الاخر درجة عالية من عدم اليقين، إلا أن هناك بعض المؤشرات التي تحكم درجة عدم اليقين، والتي قد تعطي صورة ضبابية عن الوضع الاقتصادي المحلي.
من تلك المؤشرات استمرار انخفاض أسعار النفط، واختلاف وجهات النظر بين المنتجين، وصعوبة إيجاد حل توافقي بين منتجي أوبك وكبار المنتجين من خارج المنظمة، إضافة لخضوع أسعار النفط للمضاربات اليومية في العقود الآجلة، وما تحمله تلك العقود من مخاطر استثمارية قد يخفف من وطأة المضاربات فيها، مما ينعكس سلبا على تكهنات صناديق الاستثمار والمراهنات بشأنها، فأسعار النفط وتحركاتها أصبحت تحظى باهتمام كبير لدى المواطن السعودي، حتى من غير المهتمين بالشأن الاقتصادي، فأصبح الكل يدرك أثر انخفاض الأسعار على أداء القطاعين الحكومي والخاص.
ومن المؤشرات لحالة عدم اليقين أيضا، القلق الذي أصبح السمة الغالبة على المتعاملين في البورصة، وما تمر به السوق المالية حاليا من تذبذب مؤشر الأسهم في مستويات متدنية جدا، أضافة للقوائم المالية التي أعلنت عنها بعض الشركات والتي كانت دون المأمول، – مع العلم أن هذه الحالة ستبقى ملازمة للسوق المالية طالما كانت حالة عدم اليقين ملازمة لأداء القطاع الحكومي – فانخفاض أسعار النفط، وانعكاساته على إيرادات الدولة، واحتمال استمرار العجز، وتبعاته على البقاء على سياسة التقشف، وحالة عدم وضوح الرؤيا، كل تلك العوامل كفيلة بنشر العدوى للقطاعات الاقتصادية الأخرى
وتختلف استجابة القطاعات الأخرى لتلك الحالة خصوصا الاستثمارية منها تبعا لحجمها واعتمادها على حجم السيولة الداخلة إليهامن أنشطتها التشغيلية، وعلى حجم إنفاقها، إلا أنه من المرجح أن تبدأ تلك القطاعات في الدخول في منافسة فيما بينها أملا في تخفيف آثار انخفاض الطلب المتوقع على منتجاتها أو خدماتها، عندها ستضطر تلك القطاعات في الاستجابة لسلوك الأفراد، وتكون هي الأخرى ضحية في سلسلة ضحايا حالة عدم اليقين.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال