الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يكمن الخلاف بين مؤيدي ما يسمى بالاقتصاد النظري المبني على النظريات الاقتصادية والاقتصاد النظري في قضية العقلانية، والتي يٌقصد بها مدى عقلانية القرارات التي تصدر من الأفراد من عدمه، فأصحاب الاقتصاد النظري يرون أن القرارات التي تصدر من الأفراد ليست إلا نتاج تفكير عقلاني ومنطقي، ونتاج تلك القرارات العقلانية سوق عقلانية خاضعة لعقلانية الأفراد، والتي على ضوئها صاغوا نظرياتهم الاقتصادية.
بينما يرى مؤيدي الاقتصاد السلوكي خلاف ذلك، إذ أن قرارات الأفراد تتسم بعدم العقلانية، مما ينتج عنها عدم عقلانية الأسواق، ولكل منهم أدلة تدعم ما ذهب إليه كل طرف، إلا أن النظريين صاغوا نظريات اقتصادية تفسر سلوك الأفراد والوحدات الاقتصادية الأخرى، وأن تلك النظريات تمكنت من تفسر جوانب مهمة، من قرارات الأفراد والتي تتسم بالعقلانية. إلا أن وجود ما يخالف ذلك لا يعني بالضرورة إخفاق الاقتصاد النظري في صياغته لتلك النظريات والتفسيرات المنطقية التي تدعم نظرياته مثل تأثر العرض والطلب باتجاه الأسعار، وميل الأفراد للادخار في حالة ارتفاع تكاليف الإقراض، أو زيادة درجة حالة عدم اليقين – زيادة الشك – حول الوضع الاقتصادي، وغيرها من النظريات الأخرى التي تفسر سلوك الأفراد نتيجة لبعض المتغيرات الاقتصادية.
إلا أن ذلك لا ينفي تبني بعض الأفراد لقرارات قد تخالف النظرية الاقتصادية، مثل قيام الفرد بشراء سلعة سيارة مثلا رغم ارتفاع سعرها مقارنة بأخرى أقل منها، وهذا القرار له أسباب داخلية مثل نظرة الفرد لمنفعته من شراء تلك السيارة من عدمه، أو لارتفاع دخله، مما يجعله لا يكترث أو ينظر للسعر المقومة به السلعة، فهل يقال أن قراره هذا لا عقلاني، بل لو افترضنا وجود سلعتين بديلتين أحداهما ارتفع سعرها مقارنة بالأخرى، فالعقلانية أن يتخذ الفرد قرارا بعدم شرائها واستبدالها بالأخرى قليلة الثمن. لكن السؤال ماذا لو كانت السلعة الرخيصة تحوي في مكوناتها ضررا أكبر مقارنة بالأخرى، هل يقال أن هذا القرار عقلاني، بل لو حدث العكس وتم شراء السلعة التي ارتفع سعرها أن قرار هذا الفرد لا عقلاني، إضافة أنه خالف النظرية الاقتصادية مما يعني اخفاقها في تفسير السلوك، أو اقبال الفرد على الاستثمار في سوق المال نتيجة لما سمعه من تحقيق البعض من أرباح خيالية، مما يجعله يتخذ قراره الاستثماري دون خبرة بالسوق.
هؤلاء ليسوا مقياس لدقة أو صحة تلك النظريات الاقتصادية، أو إلى أي مدى يشك أصحاب الاقتصاد السلوكي في تلك النظريات واعتبار ذلك اخفاقا في افتراض الاقتصاد النظري في عقلانية القرارات التي يتخذها الأفراد. إلا أن الخلاف بين الفريقين يبرز أكثر حينما يتعلق الأمر بأسواق المال، والتي يظهر من خلالها حزمة من القرارات الخاطئة التي يتخذها الأفرادوتفتقد للعقلانية، مما تؤدي في النهاية إلى عدم عقلانية الأسواق، وتخالف النظريات التي وضعها وصاغها أصحاب الاقتصاد النظري.
فحين تتجه أسعار الأصول أو الأوراق المالية للارتفاع يتزايد معها الطلب على تلك الأصول، وهذا لا يخالف ما ذهبت إليه النظرية الاقتصادية، في حالة عجز العرض عن مجاراة الطلب، إذ تأخذ الأسعار اتجاه تصاعديا،إلا أن نقطة الخلاف في ذلك هو الاقبال على تلك الأصول رغم ارتفاع المخاطر وحدوث التضخم في أسعار تلك الأصول مما يجعلها تصل إلى مستويات لا تعكس قيمتها الحقيقية، وهذا قد يفضي إلى ما يسميه الاقتصاديين بالفقاعة Bubble وربما انهيار السوق، ومثال آخر على ذلك لجوء المستثمرين لشراء السندات رغم عوائدها السلبية، والذي قد يراه أصحاب الاقتصاد السلوكي قرار لا عقلاني، في حين أن المستثمرين يبنون تلك القرارات على بعض التوقعات تجاه السوق مثل ارتفاع سعر العملة مستقبلا مما يجعلهم يحققون مكاسب تعوض خسائرهم، أو استمرار الانكماش في الاقتصاد مما يمكنهم من بيع تلك السندات وشراء المزيد من السلع والخدمات.
إن أقرب تفسير لما يحدث لأسواق المال هو ما يسمى بنظرية القطيع، أو سلوك القطيع، Herd behavior وهذا المصطلح يطلق على سلوك الفرد في الجماعة عندما يتصرف بسلوكها دون تفكير أو تخطيط، وهذا واضح حينما يتعرض قطيع من الحيوانات للخطر كردة فعل لهجوم حيوان مفترس مثلا، إذ أن كل عضو في الجماعة يسعى للنجاة من الخطر والتصرف بسلوك الجماعة وهو الهرب، فيظهر القطيع بسوك واحد.
وفي الحقيقة أن كل عضو يسعى لمصلحة نفسه، وهذا السلوك مشابها لما يحدث في أسواق المال، فحينما يبدأ السوق بالنشاط، وتزداد حركة التداول والمضاربات في السوق، ويعزز ذلك ما يُروج له بعض المحللين للأسواق من تحليلات تؤثر على قرارات الأفراد، أو ما يتداوله المضاربون من رسائل تؤدي لمزيد من الإقبال على سهم معين، عندها يسعى كل فرد لمصلحته من خلال سعيه للربح فتزداد حركة التداول، ويأخذ الأفراد سلوكا مشابها تنتج عنه تلك القرارات الخاطئة – اللاعقلانية – ، فتبدأ الأصول بالارتفاع متجاوزة السعر الذي يعكس قيمها الحقيقة، فتتجه الأسواق لمزيد من الارتفاع فتبرز نتيجة لقرارات الأفراد اللاعقلانية ما يسمى بلا عقلانية الأسواق، وبالمثل حينما تبدأ مرحلة نزول السوق عندها يسعى كل فرد لمصلحته وتقليل الخطر عن نفسه والهروب من الخسائر فيلجأ كل فرد إلى قرار البيع، وينتج أن يتخذ أغلب الأفراد نفس السلوك، – سلوك القطيع – ويبدأ السوق بترجمة ذلك السلوك لمزيد من الانخفاض والذي قد يؤدي في النهاية للانهيار، وكل ذلك هو نتيجة تصرف الأفراد وسعي كل منهم لتحقيق مصلحته.
وقد أجريت العديد من الأبحاث الاقتصادية لدراسة بعض المتغيرات الاقتصادية، ومدى توافقها مع ما ذهبت إليه النظرية الاقتصادية التي صيغت لتفسير قرارات الأفراد، ووجد تقارب كبيرا بين نتائج تلك الأبحاث وتلك النظريات إلا أن نسبة الخطأ في ذلك ليست بالضرورة ترجع لقرارات الأفراد اللاعقلانية كما يراه أصحاب الاقتصاد السلوكي، وليس معنى هذا أن لا تتحمل تلك القرارات جزء من الخطأ، إلا أن هناك عوامل أخرى أدت إلى ذلك مثل نظرة الأفراد لمنفعتهم، أو للتفاوت في دخولهم، أو بناءا على رؤية مستقبلية تجاه استثماراتهم، أو نتيجة لعوامل نفسية أو تسويقية أثرت في قراراتهم، وغيرها كثير.
فعلى سبيل المثال ومن واقعنا حينما انهارت أسعار الأسهم عام 2006، وبدأت الأموال تتجه لسوق العقار، وتزامن مع ذلك التوسع في الإقراض، وصاحبه مزيدا من المضاربات في السوق العقارية أدت أن تتضخم الأسعار عما كانت عليه في 2006 بنسبة عالية، أضطر الأفراد مع القلق أن تتجه الأسعار لمزيد من الارتفاع إلى اتخاذ قرار الشراء، فتحمل البعض نتيجة لذلك قروض قد تقارب 80% من سعر العقار، وربما لو اتخذ بعض الأفراد قرار عدم الشراء والادخار لكان قرارا صائبا، بل قد يتحمل الكثير تكاليف أجار مسكن قد يصل لنصف سعر العقار الذي اشتراه، وهذا أهون من أن يتحمل قروض يبقى مرهونا به طوال حياته، لكن السؤال هل يُلقى باللائمة في ذلك على النظريات الاقتصادية في إخفاقها حسب نظر مؤيدي الاقتصاد السلوكي، أم في إخفاق السياسات المالية أو النقدية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، فالكلاسيك يرون أن تنتهج البنوك المركزية سياسات أكثر تشددا في حالة أخذت الأسعار مسارا تضخميا.
إن ما يحدث في أسواق المال من مضاربات ينتج عنها كم هائل من القرارات الخاطئة تعطي صورة على عدم عقلانية الأفراد كما يراه أصحاب الاقتصاد السلوكي، والذي بدوره يؤدي أن تأخذ السوق مسارا لا عقلانيا، هو، فتضارب المصالح للقوى المحركة للسوق يجعل من السوق أكثر عقلانية، ولا يعني غلبة أحد الأطراف واستحواذه على مكامن القوة مما يجبر الطرف الآخر للانصياع لرغباتك أولئك على عدم عقلانية قرارات الطرف الأضعف، بلقد تكون تلك القرارات هو ما يسعى إليه صانعوا السوق، ومن بيدهم سياسات ضبط الأسواق، فزيادة النشاط في الأسواق يؤدي لزيادة التدفقات النقدية، وإقبال المستثمرين على شراء العملة المحلية، وزيادة مكاسب الوسطاء والسماسرة، وإقبال الأفراد على المزيد من الإقراض، مما يؤدي لارتفاع أرباح المقرضين، واستثمار الأفراد أموالهم في صناديق الاستثمار، والذي بدوره يخلق طلبا متزايدا على السلع والخدمات في الاقتصاد، مما ينعش الاقتصاد، في حين يحذر الاقتصاديين النظريين من ذلك ومن خطر ظهور الفقاعات وانهيار الأسواق وانعكاسات ذلك على الاقتصاد ككل، بينما يبقى أصحاب الاقتصاد السلوكي عاجزين أن مساعدة الأفراد في اتخاذ قرارات أكثر عقلانية حين فورة الأسواق.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال