الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
“سيجبرونا على رفع الضرائب وزيادة أسعار الفائدة وإغلاق عدد من بنوكنا ومؤسساتنا المالية وسيُفرض الإفلاس على شركاتنا التي تواجه صعوبات بسبب ضعف العملة”. العبارة السابقة مأخوذة من خطاب توجه به للشعب الماليزي رئيس الوزراء مهاتير محمد نهاية العام ١٩٩٧ بمناسبة العام الجديد. كان مهاتير يشرح لشعبه سبب رفض حكومته عرض الإقراض من صندوق النقد الدولي لمواجهة الأزمة المالية التي كانت تمر بها بلاده مع الدول الآسيوية الأخرى نتيجة للضغوط الكبيرة على عملات تلك الدول قبل الخطاب بعدة أشهر ما أدى الى انخفاضات شديدة في قيمة العملات والأصول والبورصات وبالتالي تعرض تلك الاقتصادات التي كانت تحقق نسب نمو مرتفعة جدا للخطر.
كان صوت مهاتير عاليا منذ بداية الأزمة باتهام المضاربين وصناديق التحوط بأنهم سبب الأزمة الآسيوية عن طريق المضاربة بالعملات وكانت حصة الأسد من الاتهامات للمضارب الشهير جورج سوروس. معظم الدول الأخرى التي واجهت الأزمة وخصوصا تايلاند وكوريا الجنوبية استقبلت قروض ومعونات صندوق النقد والولايات المتحدة الأميركية مصحوبة، كما هي العادة، بشروط يُطلق عليها إصلاحات اقتصادية على الدول أن تلتزم بها لاستلام القروض. تحت وطأة شُح السيولة والخوف من المخاطر المُحتملة ترضخ الكثير من الحكومات خوفا من انهيار الاقتصاد. لكن مهاتير لم يرضخ وواجه صندوق النقد ومعه المنظمات الدولية ونجح.
قارن مهاتير في أحد المؤتمرات بسخرية بين وصف مدير صندوق النقد الدولي في تلك الفترة، ميشال كامديسوس، قبل بداية الأزمة الآسيوية بأسابيع للحكومات المعنية بأنها واعية لتحديات النمو المرتفع وجاهزة للتعامل مع مخاطره، ثم قوله بعد الأزمة بأشهُر أن تلك الحكومات تفتقد لأسس الحوكمة الصحيحة. وبمناسبة ذكر كامديسوس فهو أصدر كتابا تحدث فيه عن تجربته في ادارة صندوق النقد ويذكر فيه رأيه بأن الناس بشكل عام يحاربون الإصلاحات المالية مع أنها مفيدة لهم كما يروي في الكتاب قصصا للضغوط التي تمارسها الدول الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة على الصندوق.
كانت الضغوط فعلا تُمارس بشكل غير مباشر لكن قوي جدا. يروي مهاتير في مقابلة مع الباحثة إيمي توريس، التي أصدرت كتابا عن تلك المرحلة بعنوان “المأساة التي لم تحصل”، كيف أن نائبه ووزير المالية أنور إبراهيم كان مؤيدا لطلبات صندوق النقد وكان يقدم دائما اقتراحات بخفض الإنفاق وإلغاء المشاريع. قام مهاتير بعد ذلك بعزل أنور إبراهيم بتهم تتعلق بالفساد والشذوذ وصدرت ضده أحكاما بالسجن. مع أن أنور خرج من السجن وعاد للحياة السياسية بعد تقاعد مهاتير إلا أن التهم التي أدين بسببها بقيت مثبتة من المحاكم ولم يبرأ منها. كان أنور خلال محاكمته يلقى تعاطفا من قادة الدول الكبرى، ومنهم نائب الرئيس الامريكي آل غور ووزيرة الخارجية أولبرايت، وهو ما استخدمه مهاتير لتأكيد أن أنور كان يتعاون مع المنظمات الدولية.
عرف مهاتير أن الحل يجب أن يكون محليا فبدأ بالعمل. شكل لجنة خاصة من الوزراء المختصين والموظفين المعنيين في الهيئات الاقتصادية كانت تجتمع لمدة ثلاث ساعات يوميا خمس مرات في الأسبوع بحضوره شخصيا. أصبحت هذه اللجنة بمثابة العقل المفكر للوصول لحل بالإضافة إلى أنها أصبحت تقريبا تحل محل الحكومة في المواضيع الاقتصادية. في سبتمبر 1998 أعلنت خطة العمل والتي تضمنت قيودا جزئية على العملة وربطها بالدولار الأمريكي مع إبقائها متحركة أمام العملات الأخرى بالإضافة الى إجراءات أخرى (لا يتسع المجال هنا لذكر وتفصيل الخطة). شرح مهاتير خطة العمل بقوله: إننا نؤمن بالاقتصاد الحر ولكنه ليس دينا لنا. سنطبق ما نراه مناسبا ونحافظ على إستقلالية بلدنا المالية.
فيما بعد تراجع الكثير من النقاد عن آراءهم التي توقعت سقوط ماليزيا بل ويقول بعض المحللين أن صندوق النقد خفف إجراءاته على الدول الآسيوية الأخرى بعد الذي حصل مع ماليزيا. عادت ماليزيا للنمو واستمرت كقصة نجاح تاريخية في الاقتصاد وأصبح مهاتير محمد بمثابة الأسطورة على الرغم من كل الانتقادات التي وجهت له. لم يرضخ واعتبر أنه يدافع عن منجزات شعبه وكرامته.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال