الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
العالم يقوم على التنوع، من ابسط الأمور في الحياة إلى اعقدها، وفي حال انعدامه يحدث الإختلال بلا شك. وكما يظهر ويُحتاج إليه في الكائنات والمخلوقات المادية وبينها، كذلك يُحتاج إليه في غير المادي كالفكر، هذا ما يقوله ويقره كل عاقل.
والتنوع والتعدد في الأفكار غير انه سمة المجتمعات الحية، فمن خلاله يتم طرح الأفكار وتلاقحها، فيذهب الزبد ويبقى ما ينفع الناس، سواء ببقاء القابل للحياة والإستمرار منها، أو بخروج افكار جديدة هي نتاج تفكير لجمع افكار سابقة عليها أو مبتكرة.
ومجال الإدارة خاصة ادارة الدولة والإقتصاد الكلي والمالية العامة وما يتفرع منهما، جزء من ذلك. فتوجد في العالم اليوم عدة مدارس فكرية، لكل منها فلسفتها الخاصة ونظرياتها، وممارساتها العملية التي تظهر في تنظيم الإدارة العامة، وفي انظمة وقوانين واجراءات الحكومات، وفي السياسيات الإقتصادية والمالية والنقدية، وفي التنبؤ بالأثر المترتب عليها في كل مجال، بما في ذلك الأثر الإجتماعي المترتب على تلك جميع تلك السياسات.
لدينا المدرسة الأمريكية في الإدارة والإقتصاد، وهي تمثل المدرسة الرأسمالية اليوم، وتجنح في العديد من ممارساتها، خاصة لدى مجتمع الأعمال وغالبية سياسات الحزب الجمهوري لأقصاها، حيث تسمى حينا بالرأسمالية المتوحشة، وتستمد جذورها وفلسفتها من الفكر الرأسمالي التقليدي، والليبرالية التقليدية الممزوجة بالفلسفة النفعية ” البراغماتية”، وهي الفلسفة ذات الجذور الأمريكية تحديدا.
كذلك لدينا المدرسة الأوروبية على تنوعاتها، وهي تجمع بين الفكر الرأسمالي من جهة، وبين فكر الديموقراطية الإجتماعية ” الديموقراطية الإشتراكية”، وهذا موجود في اغلب دول القارة، وهو اشد وضوحا في ألمانيا، بريطانيا، وفرنسا. على تنوع في غلبه نسبة أي منهما على الآخر بين الأحزاب وداخل الحزب الواحد، كما نرى مثلا بين حزب المحافظين وحزب العمال في بريطانيا.
لدينا كذلك المدرسة الآسيوية ممثلة باليابان ثم كوريا، التي تمزج كل ذلك، بالقيم والتقاليد المحلية. وهذا التباين والإختلاف بين القارات والمدارس، مرده اختلاف الفلسفة السياسية الغالبة، والجذور التاريخية والفكرية والثقافية المؤثرة على كل تجربة، وطريقة تكوين مجتمع السياسة والإقتصاد، ومدى مساهمة المجتمع العام ومؤسساته في القرار السياسي، والخلفيات الخاصة لأفراد كل مجتمع. وهذا المقال بالتأكيد ليس كافيا لمزيد حديث عن المدارس ولو بشكل مختصر، لكنها اضاءة مهمة وضرورية للآتي.
يخوض البلد تحديا كبيرا وضروريا للتغيير، ممثلا في رؤية 2030، وهي رؤية طموحه يراد عبرها مواجهة مشاكل وتحديات حالية ومستقبلية اقتصادية، مالية، اجتماعية، وانبثقت منها عدة مبادرات، في مجالات عديدة. وهذه الرؤية والمبادرات المنبثقة عنها، بحجمها وتنوعها وشمول مجالاتها، ومقدار المبالغ التي رصدت لتنفيذها، بحاجة لآلاف الأفراد المشاركين فعليا في التخطيط، التنظيم، النتفيذ، الرقابة، وعلى المستويات الإدارية كافة، الإستراتيجي والتنفيذي والتشغيلي، الذين سيقومون بإستحداث، إلغاء، تعديل، مئات الإنظمة، السياسات، الإجراءات، وطرق العمل المختلفة.
كذلك الأثر المالي والإقتصادي والإجتماعي المترتب على الدولة، الإقتصاد، القطاع الخاص، المجتمع، سيكون كبيرا جدا، وسيمتد لأجيال، واذا نفذ كما يطرح نظريا سينقل الدولة والمجتمع لموقع مختلف ايجابا، وإن نفذ بطريقة سلبية سيعاني منه الجميع ايضا لأجيال. وكانت لدينا تجارب سابقة في خطط التنمية، لم تحقق النجاح الكبير، فقد نجحت نسبيا في مجالات معينة، وفشلت في أخرى، والمخططين والمنفذين تلك الخطط التي لم تحقق النجاح المأمول، مازال عدد كبير منهم في ذات المواقع، ولديهم التأثير الكبير على رؤية 2030 ، إلم يكن في التخطيط ففي التنفيذ والإشراف والرقابة، داخل الوزارات المختلفة.
ايضا من المعلوم أن غالبية النخبة السعودية في الإدارة والاقتصاد، سواء في العمل الحكومي أو القطاع الخاص وعلى مر عقود، هم من متشربي فكر المدرسة الرأسمالية الأمريكية، بسبب كونهم غالبا من خريجي الجامعات الأمريكية بحكم أن غالبية برامج الإبتعاث كانت للجامعات الأمريكية، وبحكم أن العديد منهم اكثر احتكاكا بالمدرسة الأمريكية من خلال العيش فترات من حياته هناك، والتعامل غالبا مع شركات ورجال اعمال امريكيين، والتأثر بهم.
واثر فكر وسيطرة المدرسة الرأسمالية الأمريكية، ظهر بشكل واضح جدا في القطاع الخاص، خلال عام 2016 مع اثر انخفاض اسعار النفط، والذى ترتب عليه خفض الإنفاق الحكومي بشكل كبير، وزيادة اسعار الطاقة محليا، ولمواجهة هذا لجأت غالبية شركات القطاع الخاص لإعتبار خفض التكاليف، هو السبيل الوحيد للتكيف، وتقليل الهدر في الموارد بلا شك مطلوب وضرورة، لكن المشكلة كانت في اعتبار أن تقليص عدد العاملين عن طريق الإستغناء عن عدد كبير منهم، هي الحل الأول والأسهل والأمثل وشبه الوحيد لخفض التكاليف، إلم يكن الوحيد لبعضها.
وتجاهل العمل على ابتكار واكتشاف طرق لزيادة الأرباح من ناحية، كفتح اسواق جديدة، استخدام الموارد بصورة امثل، البحث عن طرق انتاجية جديدة، والعمل على رفع مستوى الإنتاجية.
وهذا النمط من التفكير الشائع ليس خاصا بنا، بل هو ابن اصيل لنموذج التفكير الرأسمالي الغربي، الذى جرد العامل والموظف شيئا فشيئا من كونه انسان، واصبح ينظر له كمجرد أداة انتاج يستخدمها لتعظيم ثروته، تماما كأي اداة يحملها أي منا في حقيبته الشخصية، وقد يتخلص منها بعد أول استخدام، أو امتلاك اداة اخرى تقوم مقامها، دون أدنى تأنيب، وللأسف لدينا من الرأسماليين في ملاك شركاتنا واداراتها التنفيذية، من يفوق أرباب الرأسمالية في بلدانها في هذا النمط من التفكير، لكن الرأسمالي الغربي يواجه مؤسسات، تكبح جماحه.
هذا النمط من التفكير والمدرسة بدأنا نرى اثرها ايضا في القطاع العام، نعم لم يكن هناك صرف للعاملين، لكن المسؤول الحكومي لجأ للحل الأسهل، وهو فرض الرسوم والضرائب، والذى لا يحتاج لتفكير وأبداع في ابتكار وسائل جديدة لزيادة موارد الدولة، مع عدم التأثير على النشاط الإقتصادي، وعدم اجراء دراسات معمقة لقياس الأثر الإجتماعي لتلك الرسوم، وبإستثناء ” حساب المواطن” لم نرى ما يؤكد وجود دراسة للآثار الإقتصادية والإجتماعية خاصة على المديين القصير والمتوسط.
نتيجة هذا يقودنا إلى أن مجمل الفكر المؤثر في صياغة الرؤية العامة، وفي وضع الخطط والتنظيم، ووضع السياسيات والإجراءات الجديدة موضع التنفيذ سيكون الغالب عليه فكر هذه المدرسة بحكم الواقع بلا شك، ومن هنا ضرورة وجود مخططين وراسمي سياسات واجراءات، من مشارب فكرية مختلفة في الإدارة العامة، وفي الإقتصاد والمالية، واجراءات نقاشات معمقة بين المتخصصين من داخل فريق تخطيط الرؤية والمسؤولين عن التنفيذ وداخل كل وزارة، والإستعانة بالمتخصصين ذوي الآراء المختلفة من خارج العمل الحكومي،حول اثر كل قرار
اقتصاديا واجتماعيا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال