الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الفساد ظاهرة عالمية، ومكافحتها أيضا. مشكلة الفساد ليست في شخص فاسد، بل في نظام لا يتمكن من منع أو كشف الفساد في الوقت المناسب. بمعنى أكثر دقة، عندما لا توجد إجراءات واضحة للرقابة الداخلية، وفحص مستمر لهذه الإجراءات، وفحص لمدى الالتزام بها، فإن الفساد سيكون محتملا وبشكل أكثر مما نتوقع. هذه الحقيقة المجردة هي التي آمن بها العالم بعد عقود متطاولة من الحرب على الفساد، ومن تكبد فواتيره الباهظة. المشكلة القديمة التي واجهت العالم بأسره “وما زالت تواجه دولا نامية” أن لا أحد يضع معايير تحكم عمل وإجراءات الرقابة الداخلية، لا أحد يضع مفاهيمها، ويوضح إطارها، ويتابع التطورات، ويراقب الثغرات، ويدعم البحث والدراسات. ولحل هذه المشكلة في الولايات المتحدة اجتمعت عدة منظمات هناك، وأنشأت منظمة خاصة لهذا الأمر، اسمها يحمل دلالات غريبة هي COSO. وهي اختصار للعبارة الإنجليزية The Committee of Sponsoring Organizations of the Treadway Commission وبالترجمة الحرفية فهي لجنة المنظمات الراعية للجنة تريدواي COSO، وهي مبادرة مشتركة بين عدة منظمات لتوفير قيادة ووضع أطر، والتوجيه بشأن إدارة المخاطر في المؤسسات والرقابة الداخلية وردع الغش. المنظمات الداعمة هي المعهد الدولي للمراجعين الداخليين IIA، والجمعية الأمريكية للمحاسبة AAA، والمعهد الأمريكي للمحاسبين القانونيين AICPA، التنفيذيين الماليين الدولية FEI، ومعهد المحاسبين الإداريين IMA.
في المملكة جاء المحور الثالث في “رؤية 2030″، ليؤكد على الحكومة الفاعلة، وقد جاء في تفاصيل هذا المحور ما نصه: “ننتهج الشفافية لن نتهاون أو نتسامح مطلقا مع الفساد بكل مستوياته، سواء أكان ماليا أم إداريا. وسنستفيد من أفضل الممارسات العالمية لتحقيق أعلى مستويات الشفافية والحوكمة الرشيدة في جميع القطاعات. وسيشمل ذلك اتخاذ كل ما هو ممكن لتفعيل معايير عالية من المحاسبة والمساءلة، عبر إعلان أهدافنا وخططنا ومؤشرات قياس أدائنا ومدى نجاحنا في تنفيذها للجميع. وسنعمل كذلك على توسيع نطاق الخدمات الإلكترونية، وتحسين معايير الحوكمة، بما سيحدّ من التأخير في تنفيذ الأعمال، وتحقيق هدفنا في أن نقود العالم في مجال التعاملات الإلكترونية” انتهى. ولعلي أقول إن هذه المبادرة واضحة جدا وبلا مبالغة، فإنه لن يتم القضاء على الفساد إذا لم نحقق تقدما في تطوير إطار عام للرقابة الداخلية، ومعايير تفصيلية للعمل خاصة فيما يتعلق بإدارة المخاطر.
ما أود طرحه ببساطة هو: لماذا لا تقوم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بتبني إطار للرقابة الداخلية مثل الإطار الذي طورته COSO، وهذا الإطار قد تمت ترجمته من الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين، ولكنه موجه بشكل عام إلى القطاع الخاص ومؤسساته، فلماذا لا يتم تطوير إطار مماثل للهيئات والمؤسسات الحكومية في المملكة تتبناه “نزاهة”، وهذا العمل المتقدم سبق إليه المكتب الحكومي الأمريكي للمساءلةU.S. Government Accountability Office GAO، حيث أصدر عام 1999 معاييره الخاصة بهذا الشأن، ثم عاد عام 2014 وتبنى المفاهيم التي طورتها COSO، خاصة فيما يتعلق بإدارة المخاطر في القطاع الحكومي، فأصدر الكتاب الأخضر المعنون بـ:
Standards for Internal Control in the Federal Government the Green Book
وهذا الإطارالأمريكي الذي يمكن الاسترشاد به يضع معايير لنظام الرقابة الداخلية الفعال في الجهات الحكومية، ويوفر أدوات لتصميم وتنفيذ وتشغيل نظام فعال للرقابة الداخلية للمساعدة على تحقيق أهداف الحكومة المتعلقة بالتشغيل، والإبلاغ (التقارير)، والالتزام. فهو يقدم الدعم فيما يتعلق بفعالية وكفاءة التشغيل، وموثوقية التقارير للاستخدامين الداخلي والخارجي، والتأكد من الالتزام بالأنظمة واللوائح المعمول بها، وهذه هي صلب ما تنظر له “رؤية المملكة 2030” في محورها الخاص بالحكومة الفعالة.
وبشكل عام، فإن إطار معايير الرقابة الداخلية للقطاع الحكومي في الولايات المتحدة يتنبأ بشكل صريح مكعب COSO للرقابة الداخلية المكون من ثلاث فئات للأهداف، وهي كما أشرت إليها سابقا “التشغيل، التقارير، والالتزام”، وكل فئة من هذه الفئات ترتبط بخمسة عناصر، هي “بيئة الرقابة، تقييم المخاطر، أنشطة الرقابة، والمعلومات والاتصال”، ولكل عنصر من هذه العناصر مبادئ، والإطار بشكله العام يضع 17 مبدأ، وهي مقسمة على العناصر الخمسة الرئيسة كما يلي: بيئة الرقابة “5 مبادئ”، تقييم المخاطر “4 مبادئ”، أنشطة الرقابة “3 مبادئ”، والمعلومات والاتصال “3 مبادئ”، المتابعة “مبدآن”. ثم ينتهي الإطار بوضع صفات رئيسة لكل مبدأ.
بعد هذه العرض المبسط، من السهل فهم أن عملية مكافحة الفساد هي عملية منظمة بشكل دقيق، فكشف الفساد لا يمكن أن يتحقق من خلال ما يظهر على السطح، سواء إعلاميا أو اجتماعيا، كما حصل منذ فترة، ولا يمكن لهيئة مكافحة الفساد أن تعمل كمراجع خارجي مثلها مثل ديوان المراقبة أو هيئة الرقابة والتحقيق، أو أن تعمل مراجعا داخليا للجهات، وإذا بقيت بلا إطار واضح محدد للعمل، فإن الإنجاز مهما كانت الجهود المبذولة فيه سيظل محدودا، لكن إذا تم تبني إطار مثل إطار COSO أو تطبيقاته التي طورها المكتب الحكومي الأمريكي للمساءلة، فإن على هيئة مكافحة الفساد أن تتابع مع الجهات تطبيق هذا الإطار، وأي انحرافات في تطبيقه فإنها بذاتها تعد مؤشرا ودليلا على وجود الفساد. ليس هذا فحسب، ولكن الأهم أن تطبيق مثل هذا الإطار سيرسم طريقا واضحة لتحقيق “رؤية 2030” فيما يتعلق بالحكومة الفاعلة وتطبيق أعلى معايير الشفافية والنزاهة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال