الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لاحظنا مؤخرًا توجه عدد كبير من المحامين لتقديم خدمات قانونية مجانية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال الخاصة والمواقع الإلكترونية بِزعم أنَّها خدمة للمجتمع. تحظى هذه “المبادرة” بثناء وتشجيع الوسط القانوني، وتراخي الجهات المسؤولة من حيث التنظيم والإشراف والرقابة. فهل هذا السلوك يخدم المجتمع فعلًا أم يهدم المهنة، وربما المجتمع أيضا؟
يمكن القول بأن الاستشارة القانونية في مهنة المحاماة في السعودية تُعد تقريبًا نصف نشاط المحامي في المهنة؛ فالمحامي في الغالب إما أن يتولى قضية وفق عقد أو أن يُقَدِم استشارة وفق عقد وحدود للمسؤوليات. ونلاحظ أن هنالك خلط واضح حتى في أوساط المحامين أنفسهم بين الاستشارة القانونية والمعلومة القانونية التي يمكن الحصول عليها بمكالمة أو رسالة هاتفية مثلًا.
الاستشارة القانونية -كما يفترض أن تكون- هي طلب إبداء الرأي القانوني في مسألة محددة؛ يستوجب فيه تحديد القواعد القانونية وتوقيع عقد بين مقدمالخدمة والعميل، وتتطلب معرفة كاملة بجوانب القضية وبطرفيها وتستوجب أن تُحَمِل المحامي والعميل حقوقًا قانونية ومسؤوليات أمام القانون، ويُفترض أنتؤثر على كلا الطرفين. فهل ما انتشر من تقديم بعض المحامين لاستشارات مجانية يخضع لهذا التعريف؟
هناك عدة مبررات يسوقها المحامين لتسويغ ما لا يستساغ، وكلها تحت عنوان كبير اسمه خدمة المجتمع. فمنهم من اعتبر القانون علم وكَتْم العلم أو حَبْسِه عن الناس فعل مُحّرم، ومنهم من عزَا قيامه بهذا السلوك إلى أنه “تثقيف قانوني” في ظل “الأمية الحقوقية” التي تسود المجتمع.
في المجتمعات المتقدمة في مجال القانون يسمى ما نتحدث عنه (سوق الخدمات القانونية) أو اقتصاد القانون. وحيث أن خدمات المحامين ومقدمي الخدمات القانونية تُكّلِف كثيرًا ولا تَقْدِر نسبة كبيرة على تَحَمُل أعباءها، وبما أن الأنظمة القضائية تفترض أن يتمكن كل إنسان من الحصول على مساعدة قانونية احترافية حينما يحتاجها؛ فلذلك تقوم الحكومات بدفع تكاليف قضايا معينة لمحامين ومكاتب ومقدمي خدمات قانونية، ويحمل محتاج الخدمة بطاقة تُعّرِف أنه ممن تنطبق عليهم المساعدة المجانية بالنسبة له وليست بالنسبة لمُقّدِم الخدمة التي تتحمل نفقتها الحكومة أو مصادر تمويل أخرى، فيحصل متلقي الخدمة على محامي مدفوع التكاليف ويكون كل شيء موثق ومعمول به كما في الحالات الاعتيادية. ويُذكر أيضًا أن وزارة العدل البريطانية تنشر كل ثلاثة أشهر إحصائيات دقيقة حول المساعدة القانونية التي تضمنها الدولة لغير القادرين.
فالتساؤل هنا: هل فكرة الاستشارة المجّانية الحاصلة لدينا مثل المساعدة القانونية التي تضمنها الأنظمة القضائية في الدول المتقدمة لغير القادرين على تحمل نفقات المحامي؟ أم هي اختراع محلي يتميز بالعشوائية والفوضى أكثر من فوائده المزعومة؟ ويفترض أن ضمان حصول المحتاج على الدعم القانوني هو وظيفة الحكومة وبإشرافها وبقوانين وضوابط تحكمه. فهل يعرف أحد أي إحصائيات عن هذه الاستشارات والمتلقين لها ومقدميها والاقتصاد خلفها والعلاقات غير المحددة بين العميل ومقدم الخدمة ونوعية القضايا أو نوعية طالبي الخدمة المجانية؟ وما هي محفزات الزملاء الذين يقدمون هذه الخدمة؟
فالقانون يقوم على العقود ومعرفة هويات الأطراف وتقديم الخدمة بمقابل محدد. فحين قُدّمَت هذه الخدمة بشكل مجاني هل كان هنالك إحاطة بالجوانب الاقتصادية والأخلاقية والمهنية وإدراك الآثار والأضرار التي قد تلحق بالمهنة أو المجتمع من تلك النواحي؟ وهل من المعقول أن يُقَدِم مهني محترف خدمات مجانية؟ وهل تقديم هذه الاستشارات بشكل مجاني يعادل نفس الجودة حين يتم تقديمها بمقابل-كما في الحالات الاعتيادية-؟ وهل الفرق في الجودة -كما هو متوقع- وبانتفاء الهدف من تقديم خدمة كما يجب لا يضر بالسوق وبأداء المهنة؟ فهذا سوق يقوم على الحوافز وعلى استثمار الوقت والجهد والتأهيل. ويلاحظ المهتمين بالأمر أنه من الوارد أن يكون اسم مقدم الخدمة أو صفته غير معروفة -فما بالك بهوية متلقي الخدمة- فهل يترتب على ذلك أضرار منالناحية الأمنية والاجتماعية؟
ما أودّ أنْ أشير إليه أن خدمة المجتمع من خلال تقديم عمل تطوعي أو خدمات دون مقابل لا شك أنها عمل نبيل وله العديد من الآثار الإيجابية ويعد ركيزة أساسية في بناء المجتمع ويدل على تحضره ووعي أفراده . لكن هذا الهدف السامي ينبغي ألا يتعارض مع أن يكون كل شيء وفق تنظيم محدد وفي ظل تقنين وليس بشكل عشوائي لا يُعرَف عنه شيء، وأن يكون خاضع لسيادة القانون التي تعتبر الغاية الأسمى لكل قانوني.
تساؤل أخير أضُمُه لبقية التساؤلات التي طُرِحت في المقال: أليست سيادة القانون هي ما يتمناه المحامون ويسعون إليه،أم أنْ تَحدُث الأشياء خارج سلطة القانون ويفعل كُلُّ شخص ما يشاء؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال