الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حرية القطاع الخاص في أمريكا هي الأعلى في العالم وربما في التاريخ نتيجة للجرأة التي يتميز بها العرق الأنقلوسكسوني، ولمرونة فلسفتهم القانونية المبنية على الأعراف التجارية والمصالح؛ والداعمة للمبادرة والمغامرة بدءً من تحريم حبس المدين، ومروراً بابتكار الشركة ذات المسؤولية المحدودة وشركة التوصية بالأسهم المصممة لاحتضان رأس المال الجريء (تم إلغاؤها في نظام الشركات السعودي الجديد!) وانتهاءً بابتكار شركة الأغراض الخاصة. ولهذا تصدرت أمريكا قيادة العالم اقتصادياً خلال القرنين الأخيرين، بأكثر من عشر ثورات صناعية كان آخرها ثورة الانترنت ثم الهواتف الذكية.
تقوم فلسفة الرأسمالية على استغلال الطاقة الهائلة الكامنة في عملية المنافسة، من أجل عمارة الأرض وزيادة معدل ما يُنتجه الوطن من بضائع وخدمات للوفاء باحتياجات المواطنين المتعاظمة للغذاء والدواء والكساء والخدمات والترفيه. أما وقود المنافسة فهو غريزة حب التملك والاستحواذ المُبرمجة في جينات الإنسان، قال الله تعالى: (زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث).
لكن المُنافسة لا تعمل بكفاءة إلا في بيئة من حرية التعاقد والاستثمار والاتجار. المُشكلة أن هذه الحرية لها أعراض جانبية خطيرة تتزايد كلما زاد هامش الحرية إلى أن يكون ضررها وخطرها أكبر من نفعها. وبالتالي يظل الاختبار الحقيقي أمام كفاءة الحكومات هو مدى نجاحها في توفير أكبر مساحة ممكنة من هذه الحرية بأقل قدر ممكن من الأضرار والمخاطر.
والمثال التالي يوضح ذلك: لنتخيل ميدان سباق للخيل محدود السعة، تتنافس فيه آلاف الخيول التي تجري بأقصى سرعتها في سباق محموم نحو خط النهاية. لاشك أنها ستتعرض لحوادث مميتة يتزايد عددها وحجمها كلما زادت سرعتها. ولنتخيل أن الجهة المنظمة للسباق أرادت تخفيض معدل الحوادث فوضعت في أرجل الخيول قيوداً تحد من تباعد خطواتها من أجل تخفيض سرعتها. عندئذٍ ستنخفض الحوادث بقدر نسبة انخفاض السرعة؛ وكلما كانت القيود أقصر كانت الحوادث أقل إلى أن تتلاشى الحوادث عندما يتحول الجري السريع إلى مشي وئيد، ولكن ثمن ذلك هو انخفاض حاد في معدل سرعة السباق وفي متعته وتشويقه.
هذا المثال ينطبق أيضاً على الرأسمالية؛ فكلما كان هامش حرية القطاع الخاص أكبر كان معدل النمو الاقتصادي أسرع وكان القطاع الخاص أكثر إبداعاً وابتكاراً، وكانت الحياة أكثر متعة وتشويقاً. ولكن في مقابل ذلك سيرتفع عدد حالات الإفلاس وانهيار الشركات ونشوء الفقاعات الوهمية في أسعار الأصول ثم انهيارها على رؤوس الملايين. ولذا فإن الحكومات الطموحة الشفافة الجريئة تُرخي العنان لمُنشآت القطاع الخاص إلى المدى الأقصى الممكن. في حين أن الحكومات التي تفتقر للشفافية وتميل للسكون والدعة والسلامة وسد باب الذرائع تُشدد هذه القيود.
المملكة من أكثر دول العالم حاجة إلى الاعتماد على القطاع الخاص وزيادة كفاءته إلى حدها الأقصى من أجل الوفاء بالاحتياجات المتعاظمة للسكان الذين يتزايد عددهم بمعدل كبير في بيئة خالية من الموارد الطبيعية سوى شيء من نفط ناضب، ومع ذلك فإن القطاع الخاص في المملكة مُكبلٌ بأغلال وقيود مُحكمة بعضها بسبب الفساد وأغلبها نتيجة لاجتهادات التنفيذيين الذين يزايدون على الأنظمة ويتجاهلون فلسفاتها ويلجؤون إلى التشدد والرفض والجمود توقياً من حدوث الأزمات والمخاطر من أجل المحافظة على وظائفهم تمشياً مع المثل السائد (احفظ للقوم ولا تصلح لهم!)، وعلى أساس أن المجتهد المُبادر هو الذي يُحاسب عند الخطأ أما الخامل البليد فيحصل على الترقية.
إذا أرادت المملكة للقطاع الخاص أن يفي بمتطلبات رؤية 2030 الطموحة فلابد من نزول المسؤول إلى الميدان واكتشاف الواقع بنفسه ثم تفكيك قيود القطاع الخاص ورفع الأغلال التي عليه، بدلاً من الاتكال على ما تحمله التقارير السنوية وما تتزين به شرائح العرض الملونة التي تعرضها الجهات الحكومية عبر شركات استشارية أجنبية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال