الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مررت بوعكة صحية في الأسبوع الماضي لم أتمكن معها من قيادة السيارة وبالتالي اضطررت للاستعانة بإحد تطبيقات خدمات النقل الإلكترونية “الكريمة” والتعامل مع أصحاب المركبات العاملين من خلاله أو ما يطلق عليهم “الكباتنة”.
وكانت تجربة ثرية؛ مبهجة أحياناً وأحياناً أخرى مؤلمة تأخذك لتسمع بنفسك شؤون وهموم وآمال الحياة لأطياف مجتمعية قليلاً ما نسمع عنها أو أننا قد سمعناها ونسينا لأننا بشر ولأننا أنفسنا مشغولون في حياتنا اليومية وفي آمالنا وهمومنا الخاصة.
أول أصدقائي من الكباتنة كان رجلاً يبدو من هيئته أنه في منتصف الثلاثينات وأخبرني أنه أتى من منطقة تقع وراء منطقة نجران ولا أعلم إن كان سعودياً أم يمنياً. يقول أنه أتى للمنطقة الشرقية وللجبيل تحديداً منذ خمس سنوات ومؤخراً انتقل لحاضرة الدمام (الدمام والخبر والظهران) وامتهن النقل في الجبيل لسنوات في عمل مدر للخير حتى أنه كان يجني ما قد يصل إلى 800 ريال في بعض الأيام كما تصل مداخيله إلى ما يقارب 15 ألف ريال خلال موسم العشر الأواخر من رمضان وعيد الفطر أي ما يعادل 1,500 ريال يومياً عندما كان يعمل في الجبيل؛ لكن عملياتهم قد تراجعت بحسب كلامه نظراً لتقلص عدد المشاريع ومغادرة العمالة التي كانت تشكل أغلب عملائه.
كان يتحدث حديث الرجل الفاهم للسوق الذي يعمل فيه ومحددات العرض والطلب خاصة عندما وصف تأثر الطلب على خدمات النقل بتراجع أنشطة البناء والإنشاء وبالتالي رحيل العمالة التي كانت بحاجة مستمرة ويومية لخدمات النقل! وتحدث أيضاً عن توجه الشركات لتوفير حافلات تقل موظفيها لمراكز التسوق ما أدى إلى تدني الحاجة لنشاط النقل الذي يعمل فيه. صديقي هذا اضطر بعد ذلك للانتقال إلى حاضرة الدمام بحثاً عن الرزق وعن سوق أكبر انتعاشاً ليجد ما أراد؛ ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد في إبهاري بفهمه للسوق الذي يعمل فيه وانطلق يتحدث عن تخطيط المدن وكيف يساعده التخطيط الجيد للمدن في عمله كموفر لخدمات النقل! شرح لي تخطيط الطرق بين الدمام والظهران والخبر وتعدد البدائل المتوفرة والتي ذللت عليه صعاب الانتقال والوصول من منطقة لأخرى عندما هطلت الأمطار الغزيرة مؤخراً حيث توجد أربعة طرق متوازية لتمثل بدائل للناقل هي: طريق الدمام الخبر الساحلي وطريق الدمام الخبر “الكباري” وطريق الظهران الجبيل وطريق أبو حدرية (الكويت). وتحدث عن التحديات التي تواجههم اليوم حيث لا يتمتعون بتصاريح نظامية لنقل الركاب ليبقوا بين سندان عقوبات الجهات الأمنية عند كشفهم وبين تنصل الجهة المالكة للتطبيق الإلكتروني من العلاقة بهم من أي طائل قانوني؛ ما يطرح التساؤل لماذا لا تضطلع وزارة النقل أو هيئة النقل بتنظيم هذا النشاط بين ملاك التطبيقات الإلكترونية والجهات الأمنية لإنهاء معاناة من يريد الحصول على رزقه من عرق جبينه؟
الصديق الآخر كان شاباً سعودياً وخريج دبلوم صحي تخصص أشعة ويعمل في مستشفى سعد بالخبر منذ تخرجه 3 سنوات مضت ولكنه لم يستلم رواتبه منذ 9 أشهر؛ فاضطر للعمل من خلال هذا التطبيق الألكتروني. تحدث عن التخبط في التخطيط والتوظيف والسعودة في تخصصات الدبلومات الصحية التي كان ضحيتها الكثيرون؛ ومنهم من قرر أيضاً عدم الانتظار وتوجه للعمل كمشغل في مصنع في مهنة لا علاقة لها في تخصصه؛ ولا عيب في ذلك.
تحدث عن استقالة زملاء أجانب واستقطابهم من قبل مستشفيات حكومية (ليس شرطاً تبعيتها لوزارة الصحة) وبرواتب مغرية وأعلى مما يحصل هو عليه.. تحدث بمرارة وألم.. تحدث بفهم لأن جزء كبير من المستشفيات والمراكز الصحية في المملكة تدار من قبل الجهات الحكومية والشركات التي أنشأتها والتي لا تتبع لوزارة الصحة؛ وبالتالي فالحل ليس بيد وزارة الصحة فقط! إنها أزمة تخطيط وتنفيذ لا تحتاج لمستشار أو اقتصادي شهير أو مسؤول كبير ليصفها؛ بل تأتي من قلب معاناة شاب في مقتبل العمر وبكل وضوح..
وسألته عن صحة الأخبار التي تم تداولها مؤخراً حول بيع المستشفى الشهير في مزاد علني وأخبرني أن ذلك غير صحيح ولن يحصل. سألته عن السبب؛ فقال أن هناك ديون والتزامات مالية متأخرة على المستشفى سواء كانت رواتب الموظفين أو مستحقات الموردين؛ وفي هذه الحالة لن يشتري المستشفى أحد لتحمل هذه الالتزامات إلا بعد إعلان إفلاس المالك.. فني أشعة وخبرة قانونية شابة تجوب شوارع الدمام والخبر بحثاً عن الرزق لأنها وقعت ضحية سوء الإدارة المالية لأحدهم وغياب التدخل الرسمي لإيجاد حلول فعلية!
بين شوارعنا وطرقنا لا تنتقل المركبات وحسب؛ بل تنتقل معها أحلامنا وآمالنا وهمومنا وتطلعاتنا.. وفي داخل كل مركبة لا يجلس شخص يقودها أو راكب يرتجلها بل طموح وآلام لا تحدها حدود لطالما كان مسكنها العقول.. وأجزم أن القصص لن تتوقف لو استمريت في التنقل.. وأجزم أن وعي ذلك المواطن المبهر لا يمكن لمقال أن ينجح في وصفه؛ ولكنها رسالة لمن يحمل المسؤولية ولمن يرتجل التخطيط على حساب المواطن!
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال