الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لاحظنا مؤخرًا في مجتمعنا ازدياد الاحتفالات واستحداث مناسبات كثيرة لم تكن موجودة في السابق، والتي بالتأكيد يرافقها عناء وتكاليف مالية وبذل مجهود. وبغض النظر عن العوامل التي أدت لظهورها، والتي كانت نتيجتها انتعاش اقتصاد فئات معينة على حساب المستهلك البسيط، فهي أقرب إلى أن تكون بهرجة أكثر منها كمظهر من مظاهر الفرح وتقوية الأواصر العائلية.
ظاهرة المناسبات هذه والمبالغة فيها طالت الاحتفالات التي تُعنى بتخرج التلاميذ من مرحلة والدخول إلى أخرى. وكان ما اعتدنا عليه في مجتمعنا هو أن تكون احتفالات التخرج موجهةً غالبًا لمن أكملوا تعليمهم العام أو العالي. لكننا بتنا نسمع عن حفلات للتخرج من المرحلة الابتدائية، أوالمرحلة المتوسطة، ثم سمعنا مؤخرًا عن حفلاتٍ للتخرج من مراحل الحضانة والتمهيدي.
قد لا يتنافى ذلك مع أي مباديء أو مرجعيات أخلاقية، فمظاهر الفرح لا يفترض أن تجلب الاستياء أو تعتبر سلوكًا مستهجنًا، خصوصًا حينما يكون أمرًا محصورًا على احتفالٍ عائلي أو مدرسي بسيط لتشجيع الصغار وإشعارهم بالاعتراف تجاه منجزاتهم الصغيرة داخل الأسرة أو المدرسة.
لكن ما يثير الاستياء والغضب معًا هو استغلال أصحاب أو مُلاك المدارس الخاصة لهذه المناسبات. فرغم أنها مدارسُ أهليةُ تتقاضى مقابل كل تلميذٍ يلتحق بها مبلغًا قد يصل مقداره لأكثر من ثلاثين (30) ألفًا سنويًا -وهذا مبلغٌ قد يتجاوز تكاليف الدراسة الجامعية في كثيرٍ في جامعات العالم المتقدم- إلا أن ذلك لم يزدهم إلا جشعًا. فإضافةً إلى أسعار المقاصف التي تستمر في الازدياد، والرسوم الإجبارية للزي المدرسي، والرحلات الترفيهية التي يساهم بتكلفتها التلاميذ، تقوم هذه المدارس أيضًا بإقامة حفلٍ للتخرج يلتئم في مبنى المدرسة، ويشرف عليه مدرسيهم، وتُعرض خلاله مسرحياتٍ يؤديها تلاميذهم، ولا يقدمون أثناءه أي ضيافة -وفي أفضل الحالات ضيافة متواضعة- ورغم ذلك فهم يتقاضون مقابل كل تذكرةٍ تسمح بحضور أهالي هؤلاء التلاميذ مبالغَ تتجاوز مئات الريالات.
وبما أننا نعيش هذه الأيام موسم الحصاد بالنسبة لهذه المدارس الاستغلالية، ونشهد فترة صيدها الوفير، إذ تكثر حفلات التخرج التي تسبق في الواقع التخرج نفسه. وهذا الأمر تندر رؤيته إلا في مجتمعنا. وكمثالٍ حي، ساستشهد هنا بإحدى مدارس البنات الخاصة الشهيرة والمعروفة بأنها إحدى الصروح العلمية التي يشار لها بـ “البنان” (نتحفظ على ذكر اسمها). هذه المدرسة نظمت حفل تخرج لتلميذات المرحلة المتوسطة مساء أحد أيام العمل: هذا الحفل أقيم على مسرح المدرسة، وبإشراف ومجهود موظفاتهم ومعلماتهم -اللواتي لم يقبضن مقابل هذا العمل أي أجر إضافي- والمسرحيات قامت بأدائها تلميذات المدرسة، وهذا أيضًا لم يتحملوا تجاهه أية تكلفة مادية. وحتى أرواب التخرج -التي لا يمكن للطالبة من حضور حفل تخرجها بدونها- لم تتحمل تكلفتها إدارة المدرسة، ومع هذا لم تُمنح تذاكر مجانية سوى تذكرة واحدة لأم التلميذة التي أنهت المرحلة المتوسطة وعُرضت بقية التذاكر للبيع مقابل (300) ريالًا. وتكلفت بعض الأسر دفع مبالغ تصل لآلاف الريالات لتتمكن بقية أفراد أسرة التلميذة من الحضور ومشاهدتها أثناء حفل تخرجها. وحتى التلميذات من غير الخريجات اللواتي قمن بأداء المسرحيات وبذلن مجهودًا بالتمرن على أدائها لم يحصلن على أي تذكرة مجانية لأفراد أسرتهن ولا حتى لأمهاتهن.
في المقابل نرى في مدارس التعليم العام في الدول الأخرى -التي لا تحظى مدارسهم الخاصة بامتيازات وصلاحيات ودعم مالي من قِبَل الجهات المعنية كما يحدث لدينا- بأن ملاك هذه المدارس وإداراتها تتعامل مع التلاميذ بطريقة بعيدة عن الاستغلال والجشع ويكون الهدف الأهم والأسمى لديهم أن يتم تصنيفهم من ضمن المدارس الرائدة في تخريج طلاب متميزين ومتفوقين، عكس ما نراه هنا حيث نستطيع أن نستقرأ من خلال ما نشهده أن الهدف الأسمى لدى هؤلاء هو زيادة الدخل.
ولا أدري إذا كان لدينا نظام ويتمتع بكونه فعّالًا في القيام بالرقابة وتحجيم الصلاحية الواسعة لهذه المدارس بالنسبة للتعامل المالي بينها وبين تلاميذها والحد من استغلالهم وجشعهم. علمًا أن هنالك قواعد منظمة للرسوم الدراسية في المدراس الأهلية، كما أن هنالك لجنة تابعة لوزارة التعليم مهمتها مراجعة رسوم المدارس والبت فيها وفي زيادة رسومها والموافقة عليها وفق الضوابط. فلا أعلم إن كانت هذه اللجنة تعتبر مبلغ ثلاثون ألفًا سنويًا للطالب الواحد -والموافقة على زيادتها- في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية لأغلب الأسر، وندرة تقديم هذه المدارس منحًا للتلاميذ المتميزين من ذوي الدخل المتواضع، يأتي وفق الضوابط أم يخالفها؟ خصوصًا أن هنالك دعم مالي تقدمه الوزارة لهذه المدارس.
كما نصّ هذا التنظيم على أنّ مراجعة الرسوم الدراسية وطلب زيادتها يكون وفق معايير معينة نذكر منها: تفعيل الأنشطة الطلابية، وتفعيل تقنية المعلومات، ووسائل الأمن والسلامة. وهذا يثير التساؤل والحيرة وربما الضحك. فما ورد من معايير لا يمكن اعتباره إلا اشتراطات أساسية، وليس تميزًا وإنجازًا وعملًا فوق المتوقع.
السؤال هنا: أين تذهب هذه المبالغ التي تستمر في الازدياد والتي تتقاضاها المدارس -ولم نشهد منها أي تطور أو إنجاز يُذكر- التي تُعنى أساسًا بالتعليم والتربية وتنمية الذوق والأخلاق، وترعى المبادئ؟ وماهي الرسالة التي قد تصل للتلاميذ حينما يرون هذه الصور الواضحة للجشع، والطمع، والاستغلال، والبهرجة، والاستهلاك الساذج من قبل القائمين على تعليمهم؟ وهل سنرى ظهور أنظمةٍ للحد من ذلك أم سيستمر الوضع بالتفاقم؟ خصوصًا حينما نضع في الحسبان أن أهالي هؤلاء التلاميذ يجدون أنفسهم مضطرين للتجاوز عن الأمر خشية تكدير فرحة أبنائهم أو إشعارهم بالنقص تجاه زملائهم، ومساهمة الموظفين فيه مجبرين دون أن يحصلوا على أجر إضافي كما يفترض، حتى لا يواجهوا مصاعب أو مخاطر تصل للفصل من أعمالهم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال