الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
من المعتاد في غالبية المجتمعات أن تعفي الدولة المواطن من تكلفة بعض الخدمات التي لا يمكن لحياته أن تستقيم بدونها. ولذلك نرى مثلًا بأن كثيرًا من الدول تتكفل بتوفير خدمات مجانية للمواطن في مختلف جوانب الحياة. فمثلًا، تتكفل دولتنا بتوفير العلاج والتعليم بشكل مجاني لكل مواطن، باعتبار أن هذه الخدمات -بغض النظر عن كفاءتها- تعد أساسيةً ولا يمكن تصور حياة المواطن بدونها.
لا نعرف فيما لو كان هنالك معايير أو نماذج استندت إليها الأنظمة لدينا لتحديد مدى أهمية الخدمات بالنسبة للمواطنين وأحقيتها في اعتبارها خدمات تستوجب تكفل الدولة بها بوصفها حقوق أساسية، وما الذي يجعل خدماتٍ أخرى ضرورية أيضًا كالخدمات القانونية مثلًا لا تحظى بمثل هذا التكفل بها من قِبل الدولة، أي لماذا لا تعتبر حقوقًا أساسية؟
ومن واقع الحال نجد أن كثيرًا من الناس في مجتمعنا قد يوضعون في مواقف يكونون فيها في أمس الحاجة إلى مساعدة قانونية احترافية، لكن لا تعتبر هذه من الخدمات الأساسية التي تتكفل بها الدولة.
الجدير بالذكر أن غالبية الأنظمة في الدول الأخرى تضمن لمحتاج الخدمة القانونية الحصول عليها وعلى المعونة القضائية في مختلف الحالات والقضايا دون تكلفة عليه، وبغض النظر عن اختلاف هذه الإجراءات وتباين كفاءتها من دولة لأخرى فإن هذه الخدمة تتكفل غالبية الدول بتوفيرها لمواطنيها بمجرد الشروع في إجراءات التقاضي أو حتى قبل ذلك حيث تقوم الجهات المسؤولة بتبليغ المعني بالأمر بإمكانية توفير محامي له. كما هو حاصل في دول الخليج كالكويت مثلا التي تطلق على محتاج الخدمة الغير قادر على تحمل تكاليف المحامي (المتقاضي الفقير).
أما المجتمعات المتقدمة في مجال القانون والقضاء فنلاحظ أن لديهم مراعاة لحقيقة أن نسبة كبيرة من العملاء لا يقدرون على تَحَمُل أعباء الخدمات القانونية. وبما أن الأنظمة القضائية لديهم تفترض أن الحصول على مساعدة قانونية احترافية حينما يحتاجها المواطن هي من حقوقه الأساسية التي يجب أن تتحملها الدولة؛ لذا تتكفل بتحمل تكاليف هذه الخدمة لمن يحتاجها عن طريق محامي ومكتب محاماة كانت الدولة عبر الجهة المسؤولة قد دفعت له تكاليف عدد معين من القضايا لتوفيرها لمحتاجها دون أعباء عليه. وبذلك يحصل محتاج الخدمة القانونية على محامي مدفوع التكاليف، ويكون كل شيء موثق ومعمول به كما في الحالات الاعتيادية، ولا تختلف جودة هذه الخدمة كثيرًا عن تلك التي يتحمل العميل نفسه تكاليفها.
أما بالنسبة لمجتمعنا فإنه رغم وجود خطوات قام بها أكثر من وزير سابق للعدل بتشكيل لجان وعمل دراسات تتضمن توصيات من شأنها توفير مساعدة قانونية مجانية لمن لا يقدر على تحمل تكلفتها، فنحن لم نرَ بعد أي بوادر لتفعيل هذه الخطوات على أرض الواقع، ولا تزال الحالات الوحيدة التي تتكفل فيها الدولة بتوفير محامي للمحتاج هي قضايا الارهاب.
وبالتالي فإن المعونة القضائية التي من المفترض أن تلتزم بها الجهات أو الهيئات المعنية تجاه محتاج الخدمة القانونية العاجز عن تكاليفها فلا نراها اليوم إلا من خلال متطوعين سواءً كانوا أفرادًا أو مؤسساتٍ أو شركات.
ولا نعرف حتى الآن فيما إذا كان هؤلاء المبادرون يقدمون هذه الخدمة التطوعية فعلًا، أو فيما إذا كانوا يقدمونها بشكل احترافي أم لا، وبالتزامٍ كافٍ، كما لا نعرف فيما إذا كان هنالك جهاتٍ تشرف على جودة هذه الخدمة، ولا فيما إذا كان هنالك تنظيم تخضع له هذه الأعمال التطوعية. فهل دافع ذلك نوايًا حسنةً بالفعل، أم أنه متاجرة بالعمل الخيري؟ أم طريقةً للظهور والإعلان الغير المباشر؟ خصوصًا وأن عدد المحامين المتطوعين في تزايد ولا نعرف عن أعمالهم أو أدائهم أو حقيقة قيامهم بالعمل شيئًا.
قد يكون هذا يرجع إلى افتقارنا لجهات إشراف ولمراكز تقييم أداء المهن. وكل ما نراه أن هؤلاء يعرضون تطوعهم الترافع في وسائل الإعلام في قضايا معينة ولا نعرف غالبًا ما الذي يحدث بعد ذلك. ومنهم من يعلن عن تقديمه لاستشارات مجانية، وهذه كذلك لا نعرف عن جودتها شيئًا. وغالبية هذه المبادرات تعرض عن طريق وسائل التواصل. هذا بالإضافة للحملات والمبادرات التي شهدناها مؤخرًا والتي تتبناها شركات ومؤسسات غير حكومية، وهذه كذلك لا نعرف ثمارها ولا مدى جديتها.
لا شك أن خدمة المجتمع، أو خدمة المهنة من خلال تقديم عمل تطوعي أو خدمات احترافية دون مقابل تعد عملًا نبيلًا وله كثيرًا من الآثار الإيجابية. ولا شك كذلك بأن مقابل الخدمات القانونية يُعد باهظًا، وأتعاب القانونيين مكلفة، فضلًا عن أنها لا تخضع لتنظيم محدد ولا لقواعد ثابتة يفرضها النظام. ولذلك فمن الطبيعي أن كثيرًا من المحتاجين للخدمات القانونية يعجزون عن الاستعانة بمحامي بسبب ارتفاع أتعاب المحاماة.
لكن هذه الأسباب لا ينبغي أن تتعارض مع وجوب أن يكون كل شيء وفق تنظيم محدد وفي ظل تقنين وليس بشكل عشوائي لا يُعرَف عنه شيئًا. خصوصًا وأننا نلاحظ بأن كثيرًا من الأنشطة المهنية والاقتصادية تفتقر للتنظيم، ولا تخضع لمعايير ثابتةٍ واضحةٍ، كما تفتقر كثيرًا إلى الشفافية، ولا تتمتع بالاحترافية التي نراها في المجتمعات الأخرى.
التساؤل هنا هو إذًا: في ظل غياب الدعم الحكومي، وفي ظل المبالغة في أتعاب المحاماة، وفي ظل ضعف الثقافة القانونية في المجتمع، فكيف يمكن أن نتصور حال المواطن المتوسط -الذي يشكل نسبةً غير قليلة في المجتمع- المحتاج للخدمة القانونية؟ وكيف لهذا أن ينال حقوقه التي قد لا يعرفها حال عجِزَ عن الاستعانة بخبيرٍ أو مختصٍ لمساعدته في ذلك؟.
وهل سنشهد في العهد القادم دعمًا حكوميًا للخدمات القانونية كما هو الأمر في قطاعي التعليم والصحة مثلًا؟ أم سيقتصر الأمر على الاستمتاع بسماع ومشاهدة المزيد من الخطط الافتراضية والوعود حول التنمية والتطوير، وهي أشياءٌ لم نرَ منها شيئًا على أرض الواقع؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال