الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قبل أربع سنوات تقريباً كنت في مكتب رئيس قسم التقاضي بالإدارة القانونية في شركة ميدترونيك Medtronic الأمريكية، وهي واحدة من أكبر الشركات العالمية لتصنيع الأدوات والأجهزة الطبية وكانت هذه الإدارة القانونية قد تم تصنيفها من ضمن أفضل أربع إدارات قانونية للشركات في أمريكا لعام 2012. وحيث كنت أدرس في نفس الكلية التي تخرج منها رئيس القسم – قبل عشرين سنة – في جامعة مينيسوتا ابتدأ الحديث بالسؤال عن الأساتذة وهل لا زال يدرس فلان وفلان تلك المواد ثم ذكر أن أحدهم كان مديراً في مكانه هذا قبل أن ينتقل أستاذاً في كلية القانون ، ثم سأل بتعجب ولماذا تأتي لدراسة القانون الأمريكي وهو لا يطبق عندكم ؟
فذكرت له أسباب منها أن الاطلاع على تجارب الدول الأخرى في أنظمتها القضائية المتقدمة يؤسس لديك القدرة على المقارنة فتحتفظ بجوانب القوة التي لديك وتعزز جوانب القصور سيما في هيكلية العمل والإجراءات القابلة للتطوير. فقال هل تظن أنك كقاضي سعودي تريد الاستفادة من القضاة الأمريكان ! إنهم قضاة فاسدون لا يمكن أن تستفيد منهم ألبتة.
حقيقة كان جوابه صادماً غير متوقع ، ولغته التشاؤمية ذكرتني بحوارات العدالة التي تدور على ألسنة المحامين في دول العالم الثالث. علمت حينها أنني إمّا أمام حالّة شاذة لا يقاس عليها أو أن الصورة الذهنية عن القضاء الغربي أو الأمريكي التي رُسِمت لدينا فيها مبالغة في التنزيه. عموماً وجدتها فرصة سانحة لأسمع شيئاً خلاف السائد المتوقع لذا عاجلته فقلت إنك تتحدث بخلاف ما يعرف عن نزاهة القضاء في أمريكا فما الأمر؟!
فأشار إلى جدول معلق على لوحة ملاحظات جدارية وقال هذه ثلاثون قضية كلها مقامة ضد Medtronic بدعوى أخطاء تقنية في تصنيع الآلات والخلل حقيقة ليس في الآلة وإنما في استخدام الأطباء لها، ومحاكم الاستئناف تتأثر بضغط السياسيين لذلك تحاول تحميلنا هذه الأخطاء لئلا يرتفع التأمين على الأطباء وبالتالي يواجه السياسيون المشكلة على نطاق واسع، لذلك يفضل السياسي أن تتحمل الشركات الكبرى المسئولية في مثل هذه القضايا فتعوض المصابين بجزء تافه ويسير من أرباحها الضخمة.
ثم أردف يقول أما قضاة الاستئناف فهم غالباً يميلون لرغبات السياسيين لذلك متوقع أن تحكم علينا المحكمة بتعويض المصابين وإذا حكمت كذلك فجميع القضايا التي تراها في الجدول سيحكم فيها بنفس الحكم وكذا كل قضية جديدة بنفس المعطيات كما أن هؤلاء القضاة رفضوا طلبنا إدخال هيئة الغذاء والدواء الأمريكية في القضية كونها قد اعتمدت صلاحية المنتجات فيجب على الأقل أن تتحمل جزءاً من الحكم لكن الضغط السياسي كان أقوى .
سألته عن حجم التعويضات المتوقعة فقال بأنها تتراوح من مئات الآلاف إلى مليون دولار لكل حالة وبالتالي قد يصل المجموع إلى عشرين مليون دولار في سنة واحدة وهذه تعد كارثة لي كرئيس قسم التقاضي وكارثة للشركة وحملة الأسهم بل على شركات صناعات الأجهزة الطبية عموماً لكن هكذا يعمل القضاء الفاسد لمصلحة السياسة.
قد أكون استطردت في تفاصيل هذا اللقاء والذي سيتفرع عنه –بإذن الله- مقال قادم بعنوان “يوم كامل في الإدارة القانونية لـ Medtronic” و”التعويضات المليونية في القضاء الأمريكي”، وأما وجه الاستشهاد بهذا اللقاء هو أن مقولة “نصف الناس أعداء لمن ولي القضاء” هي مقولة دولية – عملياً- قد تصْدُق في عموم البيئات القضائية في كافّة الدول، فمعظم من يصدر ضده الحكم القضائي يشعر بالظلم ثم يبدأ بتحليل سبب ظلم القاضي له فحيناً تكون التهمة هي الفساد المالي وتارة المعرفة بالطرف الآخر أو ربما عداوة شخصية نشأت بين القاضي وبين المحكوم ضده لكونه راجع الكلام مع القاضي في جزئية أغضبت القاضي وبالتالي تقصّد الحكم ضده ، وكل ذلك ليس له وجود إلا في تصورات المحكوم ضده ولا يؤيدها شيءٌ من الواقع.
ولذلك فإن صاحبنا هذا رئيس قسم التقاضي في واحدة من أفضل الإدارات القانونية في أمريكا شعر بالظلم في هذه القضايا التي تخصه فعمّم الحكم على جميع القضاة في أمريكا وأنه لا يمكن أن أجد ما أتعلمه من هؤلاء القضاة الفاسدين – على حد تعبيره – . ولعل من نافلة القول أن تقدير القضاء والقضاة في أمريكا في أوساط المحامين وطلبة القانون وعامة الناس لا يزال هو السائد ولا تزال الثقة في القضاء الأمريكي هي الأصل، وأرى أن من أهم أسباب هذه الثقة هو ما يدرسه ويطلع عليه الطلبة والمحامون والعامة من أحكام قضائية مصاغة صياغة قانونية محكمة ومسببة تسببيباً قوياً مقنعاً من قضاة لا يزالون على كرسي القضاء.
و مما يمكن إضافته تعليقاً على هذا اللقاء أن الاتهام الذي ذكره رئيس قسم التقاضي قد يكون صحيحاً وليس القضاء الأمريكي منزهاً تماماً عن الفساد ، و يعزل بعض القضاة لتهم الفساد وأسماؤهم وقضاياهم وربما محاكماتهم منشورة حتى في المواقع الاليكترونية للمحاكم كقائمة القضاة الفيدراليين الذين قيدت ضدهم طلبات عزل وعددهم ما يقارب 15 منهم قاض في المحكمة العليا – تم تبرئته لاحقا من مجلس الشيوخ – وقضاة استئناف وقضاة محاكم درجة أولى
https://www.fjc.gov/history/judges/impeachments-federal-judges، إضافة لقضاة الولايات وهم الأكثر عدداً وقضاياهم وأسماؤهم منشورة ، فيبقى القاضي المعزول يعرفه كل أحد بخطيئته و خيانته حتى بعد موته وهذا كافٍ لردع من لا تسمو به أمانته عن الظلم لقاء مصلحة مادية أو معنوية . وإن كان الحديث يجر بعضه بعضاً فإنه لا ينقضي العجب من تكريم القاضي المعزول بتهمة الفساد بالترخيص له في المحاماة ، ولا أحد أشد ضرراً على المحاماة من هذا النوع من فئة “قاضٍ سابق”.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال