الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نخلط كثيراً بين المقومات والمقدمات حين نزمع البدء بأي مشروع أو حتى مهمة ذاتية في أبسط تفاصيلنا اليومية وهو ما يتسبب بوأد برامجنا وطموحاتنا في مهدها.
الصغير الذي لتوه بدأ يتحدث لغة والديه يلتقط كلمات من حوله يحاول ترديدها فيتعثر مرة وينجح أخرى وشيئاً فشيئاً يتعلم اللغة التي اكتسبها بالسماع، هذا المتعلم الصغير قد امتلك (مقومات) اكتساب لغة ثانية وثالثة ورابعة فيما لو توفرت له الظروف التي أدت لاكتسابه لغته الأم فلو كان يعيش بين أسرة تتحدث الصينية أو الفرنسية أو حتى السيريانية سيكتسبها كما اكتسب اللغة الأولى لأنه يملك المقومات المتمثلة بقدرته الخَلقية على النطق والسماع وعلى الربط الذهني بين الكلمة ومفهومها، وما لم ينشأ بالفعل بين عائلة صينية -أو فرنسية أو سيريانية!- أو يتعلم في مدارس تلك اللغات؛ فسيظل دون اكتسابها مهما بقي متمتعاً بمقومات اكتساب لغات جديدة لأنه لم يمتلك (مقدمات) اكتسابها فلم يخرج من دائرة المقومات إلى دائرة المقدمات.
مثال آخر: أنت تملك مقومات قراءة هذا المقال لأنك في الأصل إنسانٌ قادر على القراءة وعلى تحويل الأحرف المكتوبة من خلال رؤيتها بالعين إلى كلمات يفهمها الدماغ ويترجمها في وجدانك إلى معانٍ وتصورات، لكنك لم تقرأه لمجرد امتلاكك هذه المقومات بدليل أن حولك وبين يديك مئات المقالات ليس لديك الوقت أو الرغبة لقرائتها، ما جعلك تقرأ هذه الأسطر بالفعل هو (المقدمات) التي تؤدي إلى النتائج، لا (المقومات) التي تحفز النتائج دون أن تحققها، فالمقدمة هي وصولك بالفعل إلى هذه الصفحة والبدء بقراءة الكلمة بعد الكلمة.
ما أعنيه تحديداً هو أن مؤسساتنا بمختلف أنشطتها -سيّما (الاستثمار، الصناعة، السياحة)- تشترك في دفع عجلة التنمية وإزاء هذه المسؤولية قد تعتقد تلك المؤسسات أن بوسعها تحقيق نتائج بمجرد امتلاكها للمقومات التي تتمتع بها امتداداً لما تتمتع به المملكة من اقتصاد متين يحفز الاستثمار، وموقع استراتيجي وموارد غنية تدعمان الصناعة في المنطقة، ومدن جبلية وساحلية تشكل رافداً للنمو السياحي، إلا أن كل ذلك يعد من قبيل المقومات لا المقدمات؛ ما يتطلب معه التنبيه لمؤسساتنا ووزاراتنا إلى أن المقومات وحدها لن تحقق نتيجة وإن طال الزمن.
إن ما تحتاجه مؤسساتنا هو استثمار المقومات لخلق مقدمات تؤدي إلى نتائج؛ فتمتع المملكة بموقع اقتصادي ضمن مجموعة العشرين وقوة أسواقها الشرائية هما مقومان يساعدان على البدء بـ(المقدمات) ومنها مثلاً: تقديم تسهيلات التراخيص والسجلات للتجار وشباب الأعمال وتعزيز حرية الأسواق ورفع مستوى شفافية الأنظمة وتقنين المسائل الخلافية في بيئة الأعمال وسن الضمانات القانونية لإتاحة دخول المزيد من المستثمرين إلى السوق وضخ السيولة النقدية بائتمانٍ عالٍ، وهكذا.
وحتى تميز مؤسساتنا بين المقومات والمقدمات يحسن أن تُخضِع جميعَ العوامل التي تحتف بخططها التنموية لهذه المعايير الأربعة:
أولاً: المقومات لا تختص بها المؤسسة فقدسية الحرمين الشريفين ليست خاصة بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني رغم كونها مقوماً مهماً للتنمية السياحية، أما المقدمات فهي خطوات ومبادرات خاصة بالمؤسسة لتقيس نتائجها من خلالها، وحتى لا تعلق نتائجها على جهود غيرها -وهي من أكثر الأخطاء- فإن تنويع وتطوير وسائل التعليم في الجامعات بما يتواءم مع سوق العمل –مثلاً- يعتبر مقدمة، إلا أنه من غير الممكن أن تكون مقدمة لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية بل هي واحدة من مقدمات وزارة التعليم التي تقيس نتائجها ومخرجاتها على ضوئها، بينما (قرار توطين العمل في محلات الجوالات) يعتبر مقدمة لوزارة العمل تؤدي إلى تحقيق نتيجة تتعلق بخفض نسب البطالة. كما أن من مقومات هدف خفض نسب البطالة –مثلاً- الطبيعة المرنة للشاب السعودي لمواكبة وسائل تعليمية ومهنية جديدة -تشترك في الاستفادة من هذا المقوم عدة جهات كالتعليم والعمل وحتى الحج!- أما قرار التوطين فهو مقدمة تختص بنتائجها وزارة العمل والتنمية الاجتماعية.
ثانياً: المقومات غالباً ما تكون واسعة النطاق ونظرية الموضوع؛ أما (واسعة النطاق) فمجرد وجود المواد الخام والمعادن الثمينة في باطن الأرض يعد بدوره مقوماً واسع النطاق يشمل الصناعات التحويلية وغيرها، وأما (نظرية الموضوع) فلأنه يمكن التعبير عنها بفكرة نظرية ذات موضوع عام لا يحتاج إلى التفاصيل على عكس المقدمات، لاحظ أن النظام الأساسي للحكم عبّر عن المبادئ العامة كالملكية ورأس المال باعتبارها مقومات في الكيان الاقتصادي، إذ نصت المادة 17على أن (الملكية، ورأس المال، والعمل، مقومات أساسية في الكيان الاقتصادي والاجتماعي للمملكة..)، وكاعتدال المناخ في مناطقنا الجبلية التي يمكن الانطلاق منها لتحفيز السياحة، وكقوة أسواقنا الشرائية التي يمكن الانطلاق منها لتحفيز الاستثمار نظرياً دون الدخول في تفاصيل الناتج القومي ومستوى صعوده أو نزوله وأنواع السلع والمنتجات المجدية للشركات فتلك مقدمات نقيس من خلالها نتائجنا وما يمكن أن نعالجه ونحققه خلال فترة زمنية محددة.
ثالثاً: المقومات تكون (ذاتية الجهد) كالأداء السياسي المتّزن للمملكة والذي أكسبها ثقلاً دولياً ينعكس على اقتصاد السوق كمقومٍ لجذب ثقة واطمئنان المستثمرين، وتكون أيضاً (موهوبة) كقدسية الحرمين الشريفين، والسواحل الضافية الممتدة على شواطئ البحر الأحمر والخليج العربي وانعكاس ذلك على السياحة كمقومٍ يمكن استثماره.
أما المقدمات فغالباً ما تكون ذاتية الجهد فهي خطوات جزئية محددة ذات أسلوب عمل دقيق يؤدي بالضرورة إلى نتيجة أياً كانت تلك النتيجة وهو ما يوضحه المعيار الرابع.
رابعاً: المقومات لا يمكن أن تستقل بتحقيق نتيجة؛ استعداد ذلك الصغير لتعلم لغة جديدة لن يجعل منه متحدثاً السيريانية مهما كان يمتلك من قدرات ذهنية ولسانية! بينما دخول المتعلم للصف الأول الابتدائي هو مقدمة تحقق ولا بد كل عام نتيجة محددة إيجابيةً كانت أو سلبية.
ولعمل مقاربة ذهنية نسبية فيمكن القول بأن مجمل ما ورد في مضامين رؤية 2030م يمثل (المقومات) التي تتجه استراتيجية المملكة إلى استثمارها من خلال البرامج والمبادرات، في حين تمثل مبادرات الوزارات في برنامج التحول الوطني (المقدمات) التي ننتظر تطبيقها على أرض الواقع وقياس نتائجها في 2020م وما بعده.
ما أريد قوله لمؤسساتنا ووزاراتنا باختصار: (نتائجكم رهن مقدماتكم..).
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال