الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في خريف عام 1434 هـ (أغسطس 2013) وفي ولاية مينيسوتا بدأت برنامج الماجستير ووقع اختياري على عدة مواد دراسية منها مادة ” مهنة المحاماة في أمريكا” وكان من أنشطة تلك المادة أو واجباتها قضاء يومي عمل في إحدى الإدارات القانونية أو مكاتب المحاماة وكتابة تقرير عن ذلك . وبعد أن شرح الدكتور هذا النشاط ومتطلباته التفت إلي وقال ?Do you have access to a car.
ترددت قليلاً – فلأول مرة أسمع السؤال بهذا التركيب – ثم قلت نعم أملك سيارة (وفهمت لاحقاً معناها الدقيق هو: هل لديك تصريح لقيادة السيارة يخوّلك أن تستأجر أو تستعير سيارة صديق إن لم يكن لديك سيارة؟ أو بمعنى آخر هل تقدر تدبّر لك سيارة) ، فقال الدكتور إذن ستكون من نصيبك شركة ميدترونيك لكون موقعها بعيد نسبياً عن الجامعة لكنها واحدة من أكبر الشركات و إدارتها القانونية تعتبر من أفضل الإدارات القانونية على مستوى الشركات الأمريكية ومتأكد أنك ستقضي وقتاً ممتعاً معهم .
في تمام التاسعة من صباح الجمعة الـ 25 من أكتوبر 2013 كنت في مكتب رئيس قسم الشركات في الإدارة القانونية حيث تتفرع الإدارة إلى قسمين رئيسيين لكل قسم مبنى مستقل بينهما مسافة خمس دقائق بالسيارة وكلاهما داخل مقر هذه الشركة العملاقة ، أما الأول فهو قسم الشركات ” Corporate Legal Department ” أما القسم الثاني فقسم الأعمال ” Business Legal Department ” .
في بداية اللقاء رحّب بي رئيس القسم وتحدث قليلاً عن الشركة وعن الإدارة القانونية ثم ناولني ورقة فيها الجدول الذي أعدوه لهذه الزيارة مسجلاً فيه الأشخاص الذين سأقابلهم والمناشط التي سأحضرها في هذا اليوم وموضحاً به الوقت المحدد لكل لقاء، بما في ذلك وقت الغداء حيث حدد فيه أسماء اثنين من المحامين الذين سأشاركهم الغداء.
بدأت بعد اللقاء الترحيبي بالمشاركة باجتماع بالفيديو بين اثنين من المحامين في الشركة مع محام من مكتب محاماة في واشنطن وآخر من مكتب محاماة آخر في بوسطن وذلك للنقاش حول قضية مرفوعة ضد الشركة من طبيب يستخدم شيء من منتجات الشركة أو أدواتها الطبية. سألت عن سبب اشتراك مكتبين محاماة في قضية واحدة فقيل أن كل مكتب متخصص ومتميز في جزئية مرتبطة بهذه القضية وللوصول إلى قرار صحيح لبناء استراتيجية دفاعنا في القضية فلا بد من مشاورة أميز المتخصصين. حينها استحضرت اثنتين من قضايا الشركات الكبيرة في محكمة الرياض والتي كان سبب خسارتها الظاهر لي هو قوة المحامي وشهرته في تخصص الشركات وضعف بضاعته في فقه الشريعة الذي تقوم عليه عقود هذه الشركات وتعاملاتها وتحتكم إليه في هذا البلد.
بعدها انتقلت للقاء مدير التوظيف والذي شرح طريقة استقطاب إدارتهم للمتميزين بطرح وظائف للطلبة خلال فترة الصيف للطلاب الذين أنهوا دراسة السنة الأولى والسنة الثانية من كلية القانون والمتميز عادة من طلاب السنة الأولى يرشح للصيف الذي يليه مباشرة من دون الدخول في مفاضلة أو مقابلات أخرى وعادة ينتهي الأمر بتوظيف عدد منهم بعد إنهاء السنة الثالثة والتخرج.
توقعت أن طريقة تدريس كليات القانون وخبرات أساتذتها العملية المتنوعة والبرامج الصيفية ستجعل الطالب مهيأً علمياً ومهارياً لممارسة المحاماة لذلك تحدثت واثقاً أن أسلوب كليات القانون في أمريكا وما توفره الشركات ومكاتب المحاماة من فرص تدريب صيفية جزماً ستقلِّل الحاجة لتدريب الموظفين الجدد. فقال – وقد فاجأني- : غير صحيح إطلاقاً ، فالموظف الجديد هو عبء على الشركة يحتاج إلى تدريب حقيقي لا تزال كليات القانون عاجزة عنه ونحن نعاني من ضعف مخرجات كليات القانون ، وستقابل اثنين من المحامين لدينا في القسم من خريجي هارفارد وبإمكانك طرح هذا الأمر عليهم لتسمع بنفسك منهم. وهذا الكلام بنصه ومعناه قرأته لاحقاً في مقالات وسمعته مراراً من محامين آخرين بل وسمعت من أصحاب تخصصات أخرى – كالإدارة- يشكون من ضعف مخرجات الجامعات في أمريكا والحاجة إلى إعادة هيكلة هذه البرامج التعليمية.
لذلك فقد تشكّلت لدي قناعة أن توقعات أصحاب العمل منالموظفين حديثي التخرج عادة تكون عالية وقد تصل لدرجة غير منطقية أحياناً ، بل قد سبق واطلعت على مذكرة كتبها بعض أشهر المحامين لدينا في السعودية كمقترح لتطوير مخرجات كليات الشريعة والقانون فوجدت أن مقترحات معظمهم منسجمة مع حاجة وطبيعة عمل كل واحد منهم في مكتبه الخاص ، لذلك فإن رأي أصحاب الأعمال عن مخرجات التعليم وتوافقها مع حاجة السوق قد لا يكون صحيحاً أو دقيقاً على كل حال ، بل – في رأيي – أنه حسْبُ الجامعات أن تقدم المعلومة الصحيحة والعملية في التخصص وبعض المهارات الأساسية المرتبطة بسوق العمل وليس مهمتها أن تخرّج موظفاً جاهزاً للعمل من غير تدريب.
انتقلت بعد ذلك لحضور اجتماع هاتفي (Conference Call) بين أحد المحامين في القسم وبين محامٍ من مكتب محاماة في واشنطن متعاقدة معه الشركة لتزويدهم بشكل فصلي (كل ثلاثة أشهر) بأحدث القوانين والقرارات و مشاريع القوانين والمستجدات المرتبطة بعمل الشركة. وحقيقة قد تكون هذه الاستراتيجية من أدوات المحاماة الوقائية التي لم أتوقع أن يصل حرص الشركة عليها إلى هذا المستوى الذي تتعاقد فيه مع مكتب خارجي متخصص بدلاً من تكليف أحد محاميها الموظفين لديها في الإدارة القانونية ، وهو النوع من المحامين الذي يسمى بـ (In-house counsel) .
ثم حضرت لقاءً عن “الملكية الفكرية للمحامين غير المتخصصين” (IP for non-IP Attorneys ) شاركت فيه ثلاثة من المحامين الذين تزيد خبرة أصغرهم في المهنة عنعشرين سنة. كان في القاعة شاشة كبيرة مفتوحة على الموقع الاليكتروني لهيئة المحامين الأمريكيين وبدأ أحد المحامين في تسجيل الدخول في رابط اللقاء وقيد أسماء المشاركين وفي لحظات انتظار بداية اللقاء الذي كان مباشراً بالفيديو ويقدمه أحد المتخصصين في قانون الملكية الفكرية ، دار الحديث حول ماهية هذا اللقاءات والمحاضرات التي تقدمها هيئة المحامين في برنامج التعليم القانوني المستمر (continuing legal education (CLE) ) و أنه يشترط على كل محامي حضور ما لا يقل عن 45 ساعة تدريبية أو تعليمية كل ثلاث سنوات منها خمس ساعات إلزامية عن أخلاقيات المهنة ، حيث تراجع تقارير المحامين المرخصين بشكل دوري كل ثلاث سنوات في نهاية شهر أغسطس.
بعد الغداء انتقلت بالسيارة إلى القسم الآخر من الإدارة القانونية وهو قسم الأعمال والذي كان مخصصاً في مجمله للمتخصصين في قوانين الملكية الفكرية حيث تعتبر مرتكزاً أساسياً لعمل الشركة وتصنيعها للمنتجات والأدوات الطبية. ومعظم أو كل من قابلت في هذا القسم كانوا متخصصين في قوانين الملكية الفكرية عموماً أو أحد فروعها كبراءات الاختراع والعلامات التجارية. في هذا المبنى كانت الممرات والقاعات والردهات بتصاميمها ولوحاتها ورسوماتها الفريدة تشِي بأنك قد وقعت في شرَك حقوق الملكية فتحاذر أن تعتدي على حق أحد وتبقى متوجساً أن يسلب منك جهدك ونتاج إبداعك في رابعة النهار لتساهلك في إحكام القيد عليه ، وهكذا يتردد محامي حقوق الملكية الفكرية على موارد الحذر و التوجس متيقظاً ، يحتمي به عميله ويتقي.
لم أكن مهتماً بهذا الفن من فروع القانون من قبل لكنّي استمتعت بالتعرف عليه في هذه البيئة الجميلة التي سيجد المتخصص فيها ما لا أظن أنه سيجده في مكان آخر ، لذلك أرى بأنه من الأماكن التي تستحق الزيارة لدارس هذا التخصص و المهتم به. في هذه الأجواء كانت لي لقاءات تزيد عن الخمسة كلها كانت حوارات حول أهمية هذ التخصص وما يقدمه للشركات المصنّعة وبعض القضايا التي تواجههم وصعوباتها. اختتمت زيارتي لهذا القسم قريباً من الساعة الخامسة وبذلك أنهيت يوماً كاملاً في الإدارة القانونية لشركة ” Medtronic “.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال