الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا تنفك اللكنة الأكاديمية عن بعض المسؤولين الذين ما اقتحموا غمار المهنة وما اتشحوا غبار معمعتها حتى أكلت عليهم الجامعات وشربت، ستظل لكنة الأكاديمي ولغته وأسلوبه وطريقة تعاطيه مع الحدث علامة فارقة في عمله مهما تبوأ من مناصب أو تقلد من مهام.
أنا هنا لا أصم الأكاديمي بالعيب والنقيصة –حاشاه-، إنما أحلل جذور بعض المقترحات ومنطلقاتها بحسب ما يتوفر لدي من معلومات وتصورات.
مؤخراً طرحت وزارة العدل بفعاليتها المعتادة ونشاطها الذي لا يتوقف ومن خلال مركز التدريب العدلي البرنامج التأهيلي للتقدمين للمحاماة، ما أسماه البعض بـ(دبلوم المحاماة) أو الزمالة المهنية، والهدف منه فيما يبدو: كفاية المتخرجين وخاصة المتخرجات عن شرط التدريب القانوني للحصول على رخصة المحاماة، يأتي هذا المقترح في الوقت الذي كنا نتوقع فيه أن يتم العمل على تحسين فاعلية التدريب الميداني والاحتكاك بكبار المحامين ودعم التوجه المهني الذي لا زال السوق متعطشاً لمخرجاته الاحترافية المهنية لا النظرية.
لا أدري ما الفرق بين هذا (البرنامج التأهيلي) وزيادة سنة دراسية في كليات القانون، وهل سيكون هذا الدبلوم أو البرنامج بمثابة الزمالة بالنسبة للتخصصات الطبية؟ أم أن تسميته بـ(الدبلوم) أو إطلاق مسمى البرنامج التأهيلي عليه إنما هو من باب المجازيات والتكنيات التي لا تعني بالضرورة حرف التدريب القانوني عن مساره المهني البحت إلى تكرار ما تمارسه الجامعات.
على كل حال –وعلى طريقة الأصوليين- فإن (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، لذا لا أريد أن أستعجل النتائج لكني أطرح تساؤلات والتماسات مجردة –وربما متخوفة- قبل أن تتحول المهنة إلى مجموعة نظريين يجيدون القراءة والحفظ وجمع المعلومات دون أن يمتهروا أدوات الترافع والتكييف والتوصيف والتعامل مع مستجدات المهنة، ورغم أن ملف البرنامج قد اشتمل على تكليف المتدرب في بعض مراحله بالترافع في قضايا قليلة، إلا أني لا زلت اعتقد أن مثل هذا التدريب الموجه لن يصنع محامياً دُهقاناً يحترف المهنة التي لا تصنعها سوى ردهات المحاكم ولجاجات العملاء.
وفي مقابل ذلك: تظل مشكلة التدرب والتدريب في مكاتب المحاماة قائمة ومعقدة إذ إن أكثر التقديرات تفاؤلاً كما كشفت عنه هيئة المحامين السعوديين قبل أيام لا تتجاوز 4451 محامياً ومحامية مرخصاً لهم في المملكة، فضلاً عن عدد مكاتب المحاماة وذلك أقل، فضلاً عن عدد المكاتب القادرة على التدريب نظامياً وإمكانياً وذلك أقل بكثير، في حين تضخ الجامعات بآلاف الدارسين والدارسات إلى سوق العمل كل عام ونصف العام! وتشير التقارير والتقديرات أيضاً إلى أن عدد المحامين المتدربين يتراوح في بحر الخمسة آلاف وسبعمائة محام متدرب أو محامية متدربة!
ناهيك عن أنه -وفي العقد الأخير- نشأ أكثر من خمسة عشر قسماً أو كلية في جامعات المملكة لتدريس القانون، فكم سيكون الأثر لهذه الأقسام والكليات على سوق العمل فضلاً عن الأقسام والكليات سابقة النشأة؟! بالتأكيد فإنه من غير الممكن استيعاب أعداد كهذه في مكاتب المحاماة مهما يكن.
وجدير بالذكر أن التدريب القانوني لا يشترط أن يقتصر على مكاتب المحاماة بل يتسع ليشمل الإدارات القانونية في الجهات الحكومية والشركات والمؤسسات الخاصة، وكذلك الإدارات ذات الصلة بالعمل القانوني كإدارات ودوائر التحقيق والمتابعة في القطاعين العام والخاص، ووسطاء العقود والصفقات، وإدارات الحوكمة والالتزام.. إلا أن انصباب إدارة قيد المحامين بوزارة العدل غالباً على طبيعة الممارسة والأحكام التي تحمل اسم المتدرب ونحو ذلك.
ورغم وجود هذه المساحات والفرص الجيدة للمساهمة في استيعاب المخرجات القانونية إلا أن مساهمتها ضعيفة بطبيعة الحال وأتفهم ذلك جيداً إذ تحرص مثل تلك الإدارات والمؤسسات على (المتمكن قدر الممكن) وقد لا تلجأ للمتدرب أو حديث التخرج إلا لجوء ضرورة أو استغلال.
يبقى القول بأن الجامعات تضخ أقل من حاجة السوق وأكثر من قدراته -على الأقل حتى هذه اللحظة- أقول ذلك احترازاً مما يبدو أن التكدس الهائل يلوح في الأفق وربما يكون واقعاً بعد عشر سنوات في أحسن الأحوال !
هذا سببٌ مقنع لما طرحه مركز التدريب العدلي، والسبب الثاني هو استغلال مكاتب المحاماة لزيادة عرض المحامين المتدربين وقلة الطلب عليهم فغدى “بعضهم” يمارس سلطة متعسفة لا تجوز لمثله في مثل هذه المهنة الشريفة، ومن ذلك فرض رسوم على التدريب رغم الاستفادة التامة من خدمات المتدرب، وكذلك إقصاؤه من الخبرة الأصلية في الترافع والاستشارات وتكليفه عوضاً عن ذلك بالمهام الهامشية والإدارية، وكذلك حرمانهم من إفادات الخبرة والحقوق والامتيازات الأخرى، إضافة إلى ما قد يكتنف ممارسة المحاميات المتدربات على وجه الخصوص من عوائق وتحديات زادت الطين بلة في مستقبل التدريب القانوني.
أجزم أن هذين السببين هما جوهر ما دعا إلى طرح مقترح البرنامج التأهلي لتدريب الخريجين. إلا أنني لا زلت اعتقد أن ذلك البرنامج أو الدبلوم سيعجز عن معالجة المشكلة إذا كان (أقول إذا كان) سيصطبغ بالنمط الأكاديمي، حتى وإن كان مشوباً بميدانية لا تغني من جوع ولا تروي من عطش.
عموماً: لا زلت لا أفهم سبب ما تصنعه الجامعات يوم أن تأوي إلى جبال تعصمها من طوفان التحديات التي تفرضها الحياة ومستجدات التنمية والمتغيرات التي يمر بها سوق العمل.
فما لم تتواءم مخرجات الجامعات بشكل جاد مع ميادين المهنة (كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً) فستظل الضفتان متباعدتان تباعداً لا يصل بينهما جسر المقترحات.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال