الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ارتبطت تفاصيل المدن بالأدباء والكتاب اذ كانت وما زالت محفزا للكتابة عن طقوسها شوارعها .. أجوائها .. حكايتها التي لا تموت , وهكذا هي المدن الجميلة التي تظل في ذاكرة الزمن , تلك التي تضج بالحياة دون صخب ! تستوقف المارة , ليقرؤوا تاريخها عبر النقوش والأثار وما تبقى من بيوت , انها روح المدن , التي تصنع الفارق بين مدينة وأخرى.
وإذا ما سلمتك الدروب إلى الشمال الغربي من ساحل البحر الأحمر , سوف يمنحك الإبحارُ فرصة التعمق في قراءتها من جديد , مدينة كمدن الأحلام , ترسم لوحة من ألوان الطبيعة بين جبال وتلال وبحر وشواطئ ورمال بيضاء , انها مدينة أملج أو (الحوراء) كما كانت تعرف قديما , المدينة التي يأخذك الحديث عن تاريخها إلى نقطة الارتباط بين ميناء الحوراء وشبه الجزيرة العربية.
لقد اكتسبت الجزيرة العربية منذ القدم أهمية اقتصادية وسياسية وعسكرية بدءا من موقعها الاستراتيجي جنوب غرب قارة أسيا وهو الموقع الذي يمثل نقطة التقاء بين قارّتي أسيا و أفريقيا والذي يأتي في منتصف العالم تقريبا , مرورا بطرق التجارة الشهيرة التي كانت تمر عبر أرضها كطريق البخور والتوابل الممتد من الجنوب الغربي للجزيرة العربية حيث ممالك سبأ في اليمن , ومنها إلى مكة ثم ديدان ومدَين ثم إلى أيلة (العقبة ) ثم البتراء عاصمة الأنباط حتى تدمر شمالا وميناء غزة في الجهة الشمالية الغربية .
لقد أسهمت هذه العوامل في تعاقب الحضارات على أرض الجزيرة العربية كحضارة الأنباط ولحيان والرومان والبطالمة والأحباش حتى جاءت الحضارة الإسلامية من بعد بأدبياتها ومبادئها المستمدة من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف , وهو الأمر الذي عظّم من مكانة الجزيرة العربية في نفوس المسلمين كونها تحتضن مكة والمدينة اللذين هٌيئ لهما كافة الوسائل في سبيل خدمة حجاج بيت الله وزوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولعل من ذلك توافر الموانئ البحرية كالجرهاء وصحار وعمانا في الجهة الشرقية وعدن وقنا في الجنوب وعلى على امتداد ساحل البحر الأحمر في الغرب كان يوجد ميناء الشعيبة وأيلة وميناء (الحوراء) الذي كان من أهمها .
وقد جاء ذكر الحوراء في الكتاب التاريخي (المسالك والممالك ) لأبي عبيد البكري يصف الطريق البحري للمتجه شمالا من باب المندب فقال ” يصير إلى جدة وهو ساحل مكة المكرمة ثم يصير إلى الجار وهو ساحل المدينة المنورة ثم يمضي إلى الحوراء وهو ساحل وادي القرى “
وتقع الحوراء إلى الشمال من مدينة أملج الحالية ,ويرجح الباحثون إلى أن من بنى الحوراء هم الأنباط على يدِ الملك ( عبادة ) ما بين العامين 90 و 93 قبل الميلاد , و ظل هذا الميناء الحيوي في فترة الأنباط أحد أهم الموانئ في الشمال الغربي من الجزيرة العربية حيث الحركة التجارية المستمرة جراء نقل البضائع إلى مملكة الأنباط وعاصمتها (البتراء) , إلى أن جاءت الإمبراطورية الرومانية بعد أن فقد الأنباط أجزاء من مملكتهم مما أضطر الملك النبطي (مالك الثاني) إلى التعاون مع الرومان أمام ضغوطاتهم المستمرة حتى سقطت مملكة الأنباط في العام 106 ميلادي بعد حكم (رب أيل الثاني ). وهنا يشير الباحث زارع الشريف في مؤلفه (لمحات من تاريخ الحوراء وملامحها ) (إلى أنه قد كان للرومان نشاطهم التجاري الذي يصل إلى بلاد الهند و قد اتجهوا إلى إنشاء بعض المواقع على سواحل تلك المناطق لحماية تجارتهم من الهجمات التي تعترض مرور سفنهم ) لعل من ذلك سيطرة الرومان على ميناء الحوراء في ظل التعاون الذي كان قائما بين الأنباط والرومان وقد شهد هذا الميناء أحداثا كثيرة , منها مكوث القائد الروماني (أيليوس غالوس ) حاكم مصر فيه عندما أراد الرومان غزو جنوب الجزيرة العربية وبالأخص مملكة سبأ في بلاد اليمن سوى أن تلك الحملة قد بآت بالفشل الذريع أمام الأهوال والعقبات التي واجهت الرومان في طريقهم إلى الجنوب ليعودوا بعد ذلك من حيث أتوا عبر طريق أخرى , وقد ظلت الحوراء تحت سيطرة الرومان حتى جاء الروم فيما بعد ليفقد الميناء شيئا من أهميته بسبب النزاعات القائمة بين الفرس والروم بعد القرن الثالث الميلادي. و دخول الأحباش في البحر الأحمر مما أدى إلى انتشار الفوضى و التأثير في الحركة التجارية بشكل عام.
أما في العصر الإسلامي فقد أحكمت الدولة الإسلامية قبضتها على سواحل البحر الاحمر وموانئه, وقد جاء ذكر الحوراء في مواطن عدة في التاريخ الإسلامي منها حادثة ذي العشيرة في السنة الثانية من الهجرة و التي كانت مقدمة لمعركة بدر , حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي معيته مائة وخمسين من المهاجرين لاعتراض عير قريش المتجهة إلى الشام من مكة فلما وصل إلى مكانٍ يسمى ذا العشيرة (بجانب ينبع ) وجد العير قد أفلتت, وحين اقترب رجوعها إلى مكة بعث طلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد إلى الحوراء لاكتشاف خبرها فوصلا إليها ومكثا بها , حتى مر أبو سفيان بالعير فأسرعا إلى المدينة وأخبرا النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالخبر.
ولعل من أهم الأحداث التي شهدتها سواحل الحوراء هي حرب جيش الصليبين مع جيش المسلين بقيادة العادل اخو صلاح الدين الأيوبي عام 578هـ عندما جهز الصليبين قواتهم وسفنهم العظيمة للاعتداء على المدينة المنورة بقيادة القائد الصليبي أورناط إلا إن جيش المسلمين قد أدركهم ووقعت تلك المعركة التاريخية على سواحل الحوراء ليهزم المسلين الصليبين بقدرة الله تعالى.
وقد أهملت الحوراء ابان تتابع الحروب الصليبية و تأثرت حركتها التجارية ولربما عاد الاهتمام إليها تدريجيا في عهد المماليك , اذا ما أخذنا في الاعتبار فترة المماليك التي امتدت منذ عام 648هـ وحتى 923هـ فهناك الكثير مما كُتب عنها في كتب الرحالة ابان مرحلة المماليك و كان يشار إليها بأنها من منازل الحجاز.
يذكر الشيخ أبو بكر أحمد بن هارون الحوراء في كتابه (روض الأزهار في عجائب الأقطار ) سنة 922هـ فيقول ( الحوراء من منازل الحجاز على شاطئ البحر المالح وهناك أبار ماء مالحة جدا وبها جبل يوجد فيه الرخام الحسن يحمل منه إلى سائر البلاد) ويصفها الشيخ عبدالقادر الجزيري في (كتاب درر الفوائد) وقد مر بها مرارا أحدها عام 957هـ فقال (قرية من قرى الحجاز تباع بها العجوة والسمك يصاد بها على يد جماعة من الصيادين في قوارب لطاف وماءها حفائر مالحة جدا وهي بجانب البحر المالح والمراكب المتجهة إلى الحجاز تستسقي منها وبها شجر الأراك ) اننا نلحظ من هذه الأقوال توافر حركات البيع ووجود الأسواق بالحوراء في تلك الفترة.
أما في القرن الثالث عشر الهجري فقد مرت أملج بمراحل سياسية هامة، يشير إليها الباحث مساعد القوفي في كتابه (الحوراء من الألف إلى الياء) قائلا (مرت أملج في بداية القرن الثالث عشر بأحداث ومتغيرات سياسية فبعد سيطرة الدولة العثمانية على تركة دولة المماليك و حكمها لمصر أصبحت صاحبة النفوذ في شمال الجزيرة العربية وخاصة أن قوافل الحجاج تمر بها , وكانت أملج الحوراء ضمن تلك المحطات وأولتها الدولة اهتماما خاصا , وكانت قوافل الحجاج المصريين تحمل معها ما يعرف بالصرة , وهو مبلغ من المال ترسله السلطات العثمانية مع امين الصرة الذي يرافق أمير الحج المصري ليوزع على اهالي الحرمين وأيضا كمرتبات لشيوخ القبائل التي يمر بها الطريق لاسترضائهم بهدف الحيلولة دون تعرض قافلته للاعتداءات من رجال تلك القبيلة, وقد أقامت الدولة العثمانية قلاعا مطلة على الموانئ التي ما زالت أثارها باقية إلى الان ولكن المتغيرات مستمرة, فبدأت الدولة العثمانية بالضعف نظرا لاتساع نفوذها وحروبها في البلقان ونظرا لتأخر مخصصات شيوخ القبائل من الدولة العثمانية ومن شريف مكة احايين كثيرة وذلك بهدف اضعاف نفوذ الدولة العثمانية.
وفي عام 1331هـ استولى الأشراف على مدينة أملج وفي ظل الضعف السياسي الذي أحدثه غياب النفوذ العثماني ادى ذلك إلى الفوضى والاضطراب وقطع الطرق وسلب الحجاج إلى ان ظهرت الدولة السعودية بقيادة موحدها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن يرحمه الله حيث دخلت أملج في العهد السعودي عام 1344 هـ) ليستقر الناس ويستتب الامن وبدأت المدينة تنمو وبدأ التعليم مبكرا بها حيث أسست مدرسة السعودية في أملج وقد سبقها المدرسة الأميرية في عهد الأشراف ليتوالى بعدها افتتاح عدد من المدراس للبنين والبنات التي اسهمت في تخريج كفاءات وطنية بناءة ساهت في بناء هذا الوطن الكبير, وقد ازدهرت الحياة التجارية في املج وعاد النشاط التجاري البحري مع الجهات الخارجية كمصر والسودان وذلك بتصدير الفحم النباتي والاصداف واستيراد الارزاق والبضائع وظلت تلك الحركة مع الجهات الخارجية حتى أوائل الثمانينيات بعد ان تطورت السفن وباتت تعمل بمحركات.
وترفل أملج اليوم بفضل الله بتطور متسارع اسهم في نهضة البلد خصوصا مع التوسع العمراني وامتداد الطرق التي ربطت القرى والهجر التابعة لها بالمدينة في ظل دعم قيادتنا الرشيدة والمتابعة والاشراف الدائمين من قبل صاحب السمو الملكي الامير فهد بن سلطان بن عبدالعزيز أمير منطقة تبوك , وأملج بطبيعتها مدينة تحملك على محبتها فأهلها أهل ترحاب ووفاء إذ لا يشعر الزائر لها بالغربة , فالبشاشة سمة تغلب طباع أهلها وهي بمثابة الملمحُ المشترك في كافة مناسباتها الاجتماعية حيث التكاتف والتعاون والمحبة .
وقل ما تمر مناسبة دون أن يُحتفى بفنونها المنوعة و التي تتقاسمها الافراح والمناسبات الرسمية والأعياد فلديها فنونها الاصيلة كفن الحدري والجمالي والزريبي وفنونها البحرية التي وفدت عن طريق البحر كالموال البحري والسمسمية والطرب وهي فنون تلمس من خلالها تنوعا ابداعيا من حيث الارتجال وزخرفة الإيقاع والتصفيق , أما في جانبها الثقافي فلها دور فعال في مواكبة قضايا الثقافة والفكر وقد شهدت العديد من الفعاليات والامسيات الناجحة كالأمسية التي اقامتها اللجنة الثقافية مؤخرا للاحتفاء بالأديب الراحل عبدالعزيز الرفاعي وقد شارك بها عدد من المثقفين والكتاب البارزين في الساحة الأدبية وقد كان لها أصداء جميلة.
يذكر بأن الاديب عبدالعزيز الرفاعي قد ولد في أملج عام 1342هـ أثناء عمل والده في جمرك املج وقد قام يرحمه الله بالتبرع بمكتبته الخاصة إلى مكتبة أملج العامة وفاءا منه لمسقط رأسه ( أملج ) .
ولعل الملفت في طبيعة هذا الجميل ما تحظى به من تنوع جغرافي أخاذ بين واحات وتلال وجزر منثورة في أرجاء البحر ناهيك عن شواطئها التي تغلفها الرمال البيضاء الساحلية وهو ما ينعكس في ذائقة شعرائها وفنانيها , حيث تتمتع أملج بأماكن سياحية جاذبة يستمتع بها الأهالي والمقيمين والزوار مثل منطقة الدقم وهي عبارة عن شاطئ بحري يجاوره اصطفاف النخيل في منظر طبيعي ساحر وكذلك شاطئ الشبعان المتميز بخلجانه وثروته السمكية ومنتزهات برية كمنطقة السهلة في الجهة الشرقية والتي تقع على طريق الشبحة العيص والتي تشتهر بأجوائها المعتدلة صيفا ومياهها العذبة.
وقد احتضنت أملج عددا من المهرجانات السياحية التي احدثت فارقا في الجذب السياحي على ضفاف البحر الاحمر كسباق المراكب الشراعية منذ عام 1417هـ ومهرجان أملج التراثي البحري الحالي و الذي تشرف عليه اللجنة السياحة بأملج واليوم تتوج كل هذه الانشطة السياحية بمشروع البحر الأحمر السياحي العملاق الذي اعلن عنه نائب خادم الحرمين الشريفين سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز مستهدفا تطوير 50 جزيرة طبيعية بين مدينتي أملج والوجه, هذا المشروع الذي سوف يرسم ملامحا جديدة لتلك المدخرات الطبيعية لتصبح المملكة بعون الله واحدة من أهم الدول في خارطة السياحة العالمية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال