الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تتمتع كلٌ من الإدارات (المالية، والقانونية، والموارد البشرية) في القطاع العام بمهام ومسؤوليات حيوية وحساسة، ويمكن أن تعادل ثلثي التشكيلات الهيكيلة في كافة الجهات الحكومية، إلا أن خضوع هذه الإدارات تحت ضغوطات الإدارات العليا في أجهزة القطاع العام ومجاملات مسؤوليها وتدخلات المتطفلين على موائد مسؤوليها جعلت من تلك الإدارات أدوات غير فاعلة في جهاتها كتروس توقفت منذ زمن وتوقفت معها الديناميكية الحيوية التي كان يجب أن تعمل باستدامة منتظمة وبأقصى درجات الفاعلية والإنتاجية.
ثمة حلول كثيرة لتحريك الترس المتوقف؛ من أنجعها بنظري “تحقيق الاستقلالية شبه التامة للإدارات الثلاث داخل الجهات الحكومية” من خلال مرجعية مركزية تديرها وترسم سياساتها وتراجع أداءها وتقيس مخرجاتها الفنية باستقلال نسبي عن أداء الجهات التي ترتبط تنظيمياً بها تلك الإدارات، بحيث يكون لكل نوع من الإدارات الثلاث جهة مختصة تشرف عليها وتقوّم أداءها وتعين مدير الإدارة فيها وتتابع سير عمله بانتظام وتتولى ترقياته وملفه الوظيفي دون أن يكون خاضعاً للجهة التي يعمل بها.
ومن ذلك –على سبيل المثال- أن تتولى مرجعية الإدارات المالية وزارة المالية، ومرجعية الإدارات القانونية وزارة العدل، ومرجعية إدارات الموارد البشرية كل من وزارة الخدمة المدنية والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، ويشرف على هذه المركزيات الثلاث مجلس أعلى لتحقيق مزيد من الاستقلالية والإشراف.
إن من مبررات مثل هذا المقترح إضافة إلى ما تقدم، ما يلي:
أولاً: المرحلة الهيكلية والتنظيمية الضخمة التي تمر بها مؤسسات القطاع العام وما يصاحبها من توجه نحو الخصخصة وتكريسٍ لفاعلية الموظف كأداة منتجة يجب أن يدر ما يعادل الأجر الذي يتقاضاه في أقل الأحوال، وإعادة النظر في مستوى أداء هذا القطاع تتطلب وجود مركزية في السياسات والرقابة والإشراف على أداء الإدارات الحيوية في الجهات الحكومية دون الاكتفاء بالتقارير السنوية والنصف والربع سنوية حتى مع صحة ما يرد فيها، إذ إنها في الغالب تقيس مخرجات الجهة بشكلها التراكمي فتغطي المنجزات فيها على مواطن الخلل.
ثانياً: الإسهام في معالجة البطالة والبطالة المقنَّعة من خلال حصر الاحتياجات وإعادة تدوير الموارد البشرية وتأهيل الكفاءات وتحقيق التنوع الخبراتي والمعرفي، وهو ما يمكن تحقيقه بشكل أفضل من خلال مركزية الإشراف والربط بين إدارات الموارد البشرية، وتسريع وتيرة الأهداف المتسقة معبرنامج الملك سلمان للموارد البشرية.
ثالثاً: التعرف الدقيق على احتياجات المؤسسات الحكومية (المالية، والموارد البشرية) حيث إنه من المتوقع لمدير الإدارة المالية أو مدير الموارد البشرية أن يكون منحازاً لجهة عمله في إعطاء تصور غير دقيق عن الاحتياجات الفعلية أو مدى الاستفادة من الموارد التي توفرها الدولة سنوياً، أو على الأقل غير متشجع للحيدة عن توصيات جهة عمله التي تحثه عادة على رفع سقف الاحتياجات قدر الإمكان، إذ من القليل أن تسمع أن جهةً أعادت الأرقام الوظيفية أو الموارد المالية المخصصة لها، وهذا من أهم أسباب التكدس والبطالة المقنّعة، وقل مثل ذلك في الهدر المالي.
رابعاً: تقديم الكثير –والكثير جداً- من الحلول اليسيرة للمشكلات الأزلية التي تعاني منها بعض الجهات الحكومية دون البعض، خذ مثلاً: مشكلتي النقل الوظيفي (سواء من وظيفة لأخرى، أو من منطقة لأخرى)، وخذ مثلاً عدم مواءمة المؤهلات والمسميات الوظيفية لكثير من الموظفين مع طبيعة أعمالهم بسبب عدم حاجة الجهة لأعمالهم الأصلية في حين تعاني شحاً في وظائف أخرى لا تجد لها موظفين مؤهلين، وخذ مثلاً الأصول غير المستغلة والتجهيزات المكدسة في مستودعات جهاتٍ ما، في حين تعاني جاراتها من شح في تلك التجهيزات، في حين أنه من الممكن حل المشكلة من جذورها في ساعة نهار واحدة على طاولة واحدة لتلك الإدارات (سيما المالية، والموارد البشرية) بإشراف الجهات المركزية.
خامساً: فيما يختص بالإدارات القانونية فهي تمثل صمام الأمان الإداري للجهات الحكومية، وهي المنظار الذي يستشرف صحة المسار الذي تسير من خلاله مؤسساتها، إلا أن القانون ولكونه حِرفة لا يفهم لغتها سوى القليل ولأن الرأي القانوني يمثل مُخرَجاً موضوعياً أنتجته معادلات العدالة قد يتعثر في كثير من الأحيان بأمزجةٍ وميولاتٍ تمليها طبيعة الثقافة الإدارية والطريقة التي تمارسها الجهة في أداء مهامها ومستوى وعي المسؤولين فيها ومدى إدراكهم لأهمية الرأي القانوني؛ فإن استقلال هذا النوع من الإدارات يحقق درجات متقدمة من العدالة والحياد وفارقاً نوعياً في جودة المنتج القانوني كما هو الحال في مسألة استقلال السلطة القضائية، سواءً كان هذا المنتَج على شكل مذكرة جوابية يقدمها ممثل الجهة للقاضي، أو توصية نظامية تُرفع للإدارة العليا، أو فتيا قانونية لسلوكإداري، أو ممارسة لصلاحيات المتابعة والتحقيق في المخالفات الوظيفية، أو كان من منطلق اضطلاع هذا النوع من الإدارات بمسؤوليتها النظامية عن الممارسات الإدارية والوظيفية.
وهو ما يتطلب أعلى قدر من الشجاعة العلمية والموضوعية المهنية والحِرفية العالية في فهم القانون واستنباط أحكامه وتفعيل نصوصه وتطبيق روحه وتعزيز هيبة النظام واحترامه في ثقافة المؤسسة، وهو ما لا يتحقق بشكله النموذجي في ظل خضوع هذه الإدارات لسياسة المنشأة التي ربما حزمت بحزم المسؤول ولانت بلينه وسافرت بسفره ومرضت بمرضه وغابت بغيابه وتعكر صفوها بتعكر صفوه وصحى ضميرها بصحوة ضميره وغفى أيضاً بغفوته.!
وهو ما يؤثر كما يلحظه قضاة المحاكم الإدارية في تذبذب مستوى العناية والاهتمام بتطبيق النظام وإنفاذ التعليمات وجودة المنطق القانوني أمام القضاء واختلاف ذلك المستوى من جهة لأخرى تبعاً لاختلاف المسؤول الذي عادة ما يكون تأثيره بارزاً في نجاح أو إخفاق هذا النوع من الإدارات واختلاف حجم المآزق والمشكلات القضائية والإدارية والمالية في تلك الجهات تبعاً لذلك المعيار الشخصي لا الموضوعي.
باعتقادي أن استقلال الإدارات الثلاث على مستوى الجهاتالحكومية بشكل عام سيحدث نقلة نوعية جريئة في التعاطي بديناميكية ومرونة مع أدق التفاصيل التي لطالما كانت مطمورة برمال التقارير العامة التي يغطي جانبها المشرق على جانبها المقلق ! دون أن يضيق المساحة الحرة ونوع الأسلوب الإداري والإبداعي الذي تنتهجه كل جهة بحسبها، بل سيحرك الترس الذي تتحرك بحركته التروس الساكنة ويسرع الأخرى المتباطئة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال