الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
فلسفة اللباس في الإسلام ترتكز على «التَمَّيز» ولها مدلولٌ حسيُّ ومعنوي، قال تعالى «يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً»، فاللباس الحسي امتنانٌ ربانيٌّ للتمييز عن الحيوانات، وعقّب سبحانه ذلك باللباس المعنوي الذي يميّز الناس فيما بينهم «وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ»، وفسّره ابن عباسرضي الله عنه بالعمل الصالح، واختار القاضي عياض أنه هو السكينة والوقار وحسن السمّت.
تَشّكل أسلوب اللباس على مرِّ العصور، وأصبح أحد معالم كل حضارة وأمة. وقد فصَّل الفقهاء في أحكام اللباس ووضعوا ضوابطه مستنيرين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، فالأصل الإباحة في اتخاذ لباس الحضارات الأخرى، ولو كانت غير مسلمة ما لم يكن لباساً دينياً لقومٍ يتعبدون الله بلبسه، فقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم لبس جبةً روميةً.
وقد اعتنى علماء السلوك باللباس المعنوي، وتحدث الفقهاء عن سمت أهل العلم وسلوكهم ولباسهم لاسيما فيما اتصل بالقضاء والفتيا الذي أصبح متصلاً بمواصفات الفقيه والقاضي. ويرى بعض الباحثين في التاريخ الإسلامي أنَّ لباس الأئمة والعلماء هو إرثٌ تشريفيٌ للاعتزاز والتميز يُشعر بوقار وهيبة العلم، ويُعزى تخصيص لباس خاص للقضاة إلى أبي يوسف القاضي تلميذ أبي حنيفة الذي يُعد أول من غَيّر لباس القضاة إلى لباسٍ مخصص، وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئاً واحداً لا يتميز أحد عن أحد بلباسه، وذلك لكي يَعلم الناس أن هؤلاء علماء ذوي معرفة يمكن اللوذ بهم والرجوع إليهم. وقد تناول الإمام الماوردي في كتابه الحاوي فصلاً عن اللباس وخصص باباً عن اللون الأسود أسماه «ثلج الفؤاد في أحاديث لبس السواد»، وتحدث ابن بشكوال في كتابه: الصلة في تاريخ أئمة الأندلس عن ألبسة القضاة، والفقهاء، والوزراء، ودلائل ألوان عمائمهم حيث كانت أحد معالم الحضارة آنذاك. وأورد القاضي عياض خبراً عن القاضي أبا بكر الأصم قاضي مصر الذي لاحظ تهاون أهلها بلبس زيِّ القضاة وقلانسهم وقال لهم: لاتشبهوا بلباس القاضي فلم ينتهوا. فاجتمعوا مرة ًعنده في الجامع، فأمر الأعوان بضرب رؤوسهم، حتى ألقوها.
واللباس في الحضارات هو نتاج تجارب إنسانية تُكتسب من وجود حاجةٍ تتكيف مع ظروف وموارد كل عصر. لذا فإن اللباس المخصص أو الزي الموحد هو أداة للتعريف إمِّا بالعاملين في الأماكن؛ مما يسهل على الناس تمييزهم كالطهاة ومقدمي الضيافة والنظافة، أو للدلالة المهنية على أرباب صنعة معينة كلباس الأطباء، وفني التمريض والمختبرات، ورجال الإطفاء والأمن وغيرهم، حتى أصبحت المهن تنطق بالزي واللون دون الحاجة لتعريفٍ إضافيٍّ.
توشحت المنظومة العدلية دولياً باللون الأسود الذي يُسدل معاني المهابة القوة والعمليّة والاحترافيّة. ووضعت بريطانيا قانون لباس القضاة عام 1635م «Court Dress, Judges’ Rules» ومنذ ذلك اللحين التزم المحامون Barristers بلسه مع اختلافٍ في التصميم، باعتبارهم أحد أفراد المنظومة الاحترافية في المحكمة، وتبعت استراليا هذا التوجه في عام 1860م. وفي فرنسا ارتبط لبس المحامي للروب الأسود بقصة ترُوى أحداثها في عام 1791م، حيث شاهد أحد القضاة وهو في شرفة منزله مشاجرة بين شخصين انتهت بقتل أحدهما وهرب القاتل، فهرع أحد المارة لإسعاف المقتول وحمله إلى المستشفى لكنه لفظ أنفاسه، فاتهمته الشرطة بقتله، وحاكمته أمام ذلك القاضي الذي أخفى الأحداث التي شاهدها، ونظراً لأن القانون الفرنسيلا يعترف إلا بالدلائل والقرائن فقد حكم هذا القاضي على الشخص البريء بالإعدام. وظل القاضي يؤنب نفسه بهذا الخطأ الفادح، ولكي يرتاح من عذاب الضمير، اعترف أمام الرأي العام بأنه أخطأ في هذه القضية بحكمه على شخص برئٍ بالإعدام، فثارالرأي العام ضده واتهمه بخيانة الأمانة. وذات يوم أثناء نظر القاضي إحدى القضايا وجد محامياً واقفاً أمامه يترافع في قضيةٍ مرتديًا روباً أسوداًفسأله القاضي: لماذا ترتدي هذا الروب الأسود؟ فقال له المحامي: لكي أذكرك بظلمك.
تحولَّ مفهوم الزي المهني من كونه علامة ورمزاً للمهنة إلى كونه أحد الاشتراطات للممارسة، وبالمقابل قد يكون ارتدائه لغرض التمويه والتدليس جريمةَ انتحالٍ يعاقب القانون عليها. وهذا دليلٌ على شأن الزي الذي أصبح أحد معالم المهنة، فالالتزام بارتداء زي المهنة يُعد احتراما لها. وقد أوجبت قوانين دول العالم على المحامي الحضور أمام المحكمة برداء خاص وهو مايطلق عليه «روب المحامي» أو «زي المحاكمات» Judicial Gowns and Robes. ورتبت بعض القوانين عدم صحة مثول المحامي أمام المحكمة بدونه. وفي واقعة مشهورة حضر أحد كبار المحامين أمام المحكمة الدستورية العليا المصرية برداء المحاماة من دون ربطة العنق، وكان رئيس الإدارة هو المستشار الدكتور عوض المر –رحمه الله وهو من له بصمة في تاريخ المحكمة الدستورية العليا-، فباغت المحامي بالسؤال، وكان ذا قدر، أين ربطة العنق؟ فرد عليه أن قانون المحاماة لا يلزم المحامي بارتداء ربطة العنق فرد عليه بصرامة معروفة عنه: وأين التقاليد والأعراف القضائية؟ وتم رفع الجلسة على الفور. وهو موقفٌ سَجّل رسالةً في نقابة المحامين المصرية بوجوب الالتزام برداء المحاماة وما عُهد لبسه عرفاً بما يظهر المحامي بالشكل اللائق.
سُئل البروفسور القانوني شارلز يابلون عن استمرار القضاة والمحامين البريطانيين ارتداء الروب الأسود والباروكة بالرغم من أنها تقاليد من القرن 14 الميلادي فقال «ارتدَوهَا عندما كانت شعاراً لنبلاء القوم، ولم يؤمروا بتركها لأنها أصبحت شعارًا لهم في هذا العصر»، وهو ما يدل على أن التميز في أروقة المحاكم أحد العلامات الفارقة بين أفراد المنظومة العدلية والمجتمع، حيث يتوشح القاضي والمحامي لبس السواد كما يتوشحان القانون لإقامة العدالة تحت مظلة المحكمة. فالمحاماة شريكة للسلطة القضائية بحكم مشاركتها في تحقيق رسالة العدالة، وتأكيد سيادة القانون، وكفالة حق الدفاع عن الحقوق والحريات.
ومن يستعرض قوانين مهنة المحاماة في العالم يجد أن الزي الخاص أحد معالمها، وتختلف القوانين في فرض جزاء على الممارس للترافع عند الإخلال به والسماح له بالمثول أمام المحكمة. ولايزال نظام المحاماة السعودي هو الوحيد دوليًا في عدم سَنِّ لباسٍ حسيٍّ يميز المحامين عن غيرهم من رواد المحكمة بالرغم من أنه سَنَّ بعض معالم اللباس المعنوي. وستثبت الأيام أن تمييز المحامين بزٍّي خاص ٍّكفيلٌ بإظهار عدد المنتحلين للمهنة بالترافع مخالفة ًللأنظمة، فضلاً عن سهولة تمييزهم لأغراض التفتيش والتعريف اللازم لموظفي المحكمة بالمحامين المرخصين لمنحهم التسهيلات الواردة في نظام المحاماة والكفيلة بأداء مهامهم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال