الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كنت تطرقت في المقال السابق عن التضخم والذي عنونته “يا مؤسسة النقد رفقا بالتضخم لا تزيدوا معاناته” المقال هنا ، عن الفارق بين التضخم المحمود الناتج عن نمو حقيقي في الاقتصاد، وبين التضخم الذي تحرص عليه مؤسسة النقد ساما، وذكرت في آخر المقال أنني سأتحدث عن بعض حسنات انخفاض التضخم في اقتصاد ريعي كالمملكة.
بداية يجب أن ندرك أن لارتفاع التضخم أو انخفاضه عن مستوياته المقبولة، عواقب ومشاكل اقتصادية، لأي اقتصاد كان، إلا أن قدرة الدول على ضبط ذلك والتدخل لمعالجته يختلف باختلاف هيكلها الاقتصادي، فعادة تلجأ البنوك المركزية لمعالجة الفجوة التضخمية إلى تبني سياسة انكماشية، من خلال السياستين المالية والنقدية، فالسياسة المالية تقتضي أن تقلص الحكومة الإنفاق، أو تقوم بزيادة الضرائب، وذلك للحد من الطلب الاستهلاكي سواء العائلي أو الاستثماري، مما يؤدي لتهدئة الأسعار وتراجعها، وبالتالي انخفاض التضخم.
بينما تهدف السياسة النقدية لكبح التضخم من خلال رفع الفائدة بهدف تخفيف الإقراض وتقليل الطلب على النقد مما يؤدي أيضا لتخفيف الطلب وانخفاض التضخم، والعكس حينما يحدث فجو انكماشية، أو انخفاض في التضخم، إذا تتبع الحكومات سياسة مالية توسعية من خلال سياسة مالية تتطلب زيادة الإنفاق أو خفض الضرائب، أو سياسة نقدية عن طريق خفض الفائدة.
والمحصلة واحدة إذا يؤدي ذلك لزيادة النقد في الاقتصاد، وارتفاع الطلب على السلع والخدمات، مما يؤدي لارتفاع الأسعار والذي يؤدي لارتفاع التضخم، وبالتالي تحسن الأنشطة الاستثمارية، وزيادة مستوى التوظف في الاقتصاد. وهذا التحكم في التضخم في الغالب تستطيعه الدول الصناعية لسببين الأول لعدم ربط عملاتها بعملة أخرى، والثاني أن الطلب المحلي على السلع والخدمات المنتجة محليا يمثل نسبة كبيرة من الطلب الذي يقوم بتلبيته القطاع الخاص، في حين يمثل الطلب الخارجي على تلك السلع نسبة ضئيلة مقارنة بالطلب المحلي.
لقد وضعت رؤية 2030 عددا من الأهداف، سنتناول في هذا المقال أحد هذه الأهداف، والذي نصه كما جاء في موقع رؤية على الانترنت “رفع نسبة الصادرات غير النفطية من ١٦٪ إلى ٥٠٪ على الأقل من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي”، وتكمن أهمية الصادرات غير النفطية بالذات بعيدا عن الصادرات النفطية، أنها قد تساعد على تخفيض العجز في الميزان التجاري أو إمالة الكفة لصالح الدولة في حالة انخفضت أسعار النفط بشكل كبير.
والميزان التجاري هو الفارق بين قيمة الصادرات والواردات للدولة في فترة معينة، ومن صالح الدولة وجود فائض في ميزانها التجاري، والذي يعني أن قيمة صادراتها أعلى من قيمة وارداتها، ومن حسنات وجود الفائض هو زيادة الطلب على العملة النقدية المحلية، وحصول الدولة على المزيد من العملات الصعبة، مما يزيد من احتياطاتها النقدية، كما أن زيادة الصادرات يعني زيادة الطلب الخارجي على السلع المنتجة -وليس المواد الخام- مما يعني زيادة الاستثمارات المحلية وبالتالي زيادة الطلب على عنصر العمل، مما ينعكس على معدلات النمو في الاقتصاد، وانخفاض معدل البطالة، هذا بصورة مبسطة عنالفوائد التي تحققها الصادرات لأي دولة.
ورغم أهمية الهدف الذي وضعتها رؤية في زيادة الصادرات النفطية من 16%-50% إلا أن ذلك الهدف لابد أن يصطدم ببعض العقبات والتحديات، سواء من الناحية المحاسبية أو الاقتصادية، ويدرك ذلك من أخذ كورسا في مادتي الاقتصاد الجزئي والذي لابد أن يتناول أحد فصوله اقتصاد المنشآت من ناحيتي الإنتاج والتكاليف، وكذلك مادة التجارة الدولية والذي يتناول الأسس التي على أساسها تتم التجارة بين الدول، هذا على افتراض عدم وجود عوائق تجارية تزيد الأمر تعقيدا.
فمن خلال التفاعل بين الإنتاج والتكاليف من جهة وبين ما يُعرف بمعدل التبادل الداخلي والدولي – وهذا المصطلح معقدا يتطلب مزيدا من الإيضاح ليس هذا مجاله – إلا أنه يتعلق بالميزة النسبية من جهة أخرى، والفرصة البديلة من جهة أخرى، بمعنى هل من الأفضل أن نقوم بإنتاج أكثر من سلعة محليا أم نتميز في بعض السلع ونستورد الأخرى؟
وهذا خاضع لعدد من الأمور منها على سبيل المثال ساعات العمل المطلوبة لإنتاج تلك السلعة، والأجر، إضافة لمدى الوفرة في الموارد المطلوبة، بمعنى هل تكلفة إنتاج هذه السلعة محليا أقل من تكلفة إنتاج نفس السلعة في دولة أخرى، فالصين مثلا لديها ميزة نسبية جعلتها ورشة العالم تتمثل في وفرة في العمل، إضافة لعنصر هام وهو انخفاض أجر العامل مقارنة بغيره، وهذا ما جعل إنتاجية العامل الصيني أقل تكلفة من غيره، هذه الميزة جعلت الشركات العالمية تتجه وتتنافس لفتح مصانع لها في البر الصيني، وهنا نتساءل مثلا، هل العائد على الاستثمار مع الأخذ بعين الاعتبار بالتكاليف المحاسبية والاقتصادية أفضل في استيراد السيارات، أو إنتاجها محليا؟، وفي حالة إنتاجها، ودون وجود أي عوائق لتصديرها هل بإمكانها المنافسة من خلال السعر بافتراض أنها ذات جودة، مع الأخذ بالحسبان سعر صرف الريال مقابل الدولار.
إن العوائق التي قد تواجهها الشركات المحلية هي التكاليف، والتكاليف تنقسم إلى قسمين تكاليف متغيرة تتغير بتغير حجم الإنتاج “ومن أمثلة ذلك تكلفة الطاقة، أجور العمال وتكاليف المواد الخام،” وتكاليف ثابتة تتحملها المنشأة لا تتغير بتغير بحجم الإنتاج، وتتمثل في تكاليف الأصول الثابتة كالمباني والأراضي -تكاليف المنفعة أو الاستئجار-، وتستمر المنشأة في الإنتاج طالما كان إيرادها الكلي أكبر من تكاليفها الكلية، كما أن الشركة تتمكن من التصدير طالما استطاعت أن تحقق مكاسب من خلال قدرتها على المنافسة من ناحيتي السعر والجودة، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار تكاليف النقل والشحن.
لذا يُعتبر انخفاض معدل التضخم في اقتصاد ريعي كالمملكة أمرا محمودا، إذ أنه لم يكن في المقام الأول نتيجة طلب على سلع منتجة محليا، كما أنه لم يخلق فرصا للعمل، وإنما في أغلبه كان نتيجة ارتفاع تكلفة السلع المستوردة، إضافة لزيادة الإنفاق الحكومي من خلال زيادة دخول الأفراد، والمشاريع الحكومية، وسيؤدي انخفاضه إلى تراجع السلع المستوردة، والمزيد من العروض والتخفيضات لتصريف المخزون، وبالتالي المستفيد من ذلك الاقتصاد من خلال تراجع الواردات والذي سيكون في مصلحة الميزان التجاري، وانخفاض الأسعار على المستهلكين.
إضافة أن انخفاض التضخم يؤدي إلى تراجع الأنشطة الاستثمارية التي تقتات في المقام الأول على الإنفاق الحكومي. كما يؤدي إلى تراجع أسعار الأصول غير المنتجة في الاقتصاد كالأراضي والعقارات وهذا ما يجب أن نسعى إليه، وفي كلا الحالات سيخفف العبء على الدولة، ويساعد على انخفاض تكاليف المنشآت الصغيرة، وسهولة قيام الأفراد بمزاولة أنشطتهم الفردية، نتيجة انخفاض التكاليف الرأسمالية، إضافة للتحول إلى أنشطة منتجة، بل حتى قبول الأفراد برواتب أقل وهذا نتيجة ارتفاع الأجر الحقيقي، والذي يعكس القوة الشرائية للفرد، وعلى افتراض عدم انخفاض التضخم -هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار احتمال ارتفاع تكاليف الطاقة مستقبلا-، فسيكون السبيل لقدرة القطاع الخاص في المنافسة خارجيا وزيادة حجم صادراته هو من خلال المزيد من الدعم الحكومي، أو السعي لخفض تكاليفه من خلال استقطاب الأيدي العاملة الرخيصة.
وهذا يعني مزيدا من الطلب على عنصر العمل الأجنبي أكثر منه على المواطن، ويبقى الاقتصاد يعيش تحت شبح البطالة، وضعف الإنتاجية، طالما نظرنا للتضخم في المملكة أنه يعكس نموا حقيقيا، وطالما كان انخفاضه مصدر قلق لواضعي السياسة الاقتصادية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال